منوعات

عيسى قراقع: المفكر الكنعاني

عيسى قراقع 18-11-2025: المفكر الكنعاني

عثروا عليَّ، بعد ألف الألف من الأعوام، في قرية العباسية شرق يافا،

جالسًا على صخرةٍ فوق سفح البحر،

تغطي وجهي غبرة الزمان،

وفي عينيّ سؤالي الأول:

هل ما زالت فلسطين تُنبت الحنطة؟

هل ما زال الزيتون يذكر اسمي حين يهزّه الريح؟

كنتُ هناك قبل المدن وقبل الملوك،

قبل أن يُرسم على الخرائط ظلٌّ لحدودٍ بلا روح،

كنتُ أكتب على الطين فلسفتي الأولى:

أن الإنسان هو شجرة،

وأن من يقتلع الجذور يموت عطشًا ولو شرب البحر.

رأيت جرافاتٍ تأكل التراب كما تأكل الوحوش قلوب أطفالها،

ورأيت التاريخ يُباع في المزاد،

والرواة يبدّلون الأسماء كما يبدّل الغريب ملامحه.

لكنني ظللتُ صامتًا،

أفكر كما كنتُ أفكر،

وأقول:

من يُبيد جسدًا لا يُبيد ذاكرة.

ومن يطمس الرواية،

يوقظ في الحجر لسانًا جديدًا.

أنا المفكر الكنعاني،

أعود كلما نُسي اسمي،

أعود في عين الأسير،

في صرخة الأمّ،

في صلاة الفجر في غزة،

في ظلّ الزيتون حين يذبل ثم يخضرّ من دم الشهداء.

انا المفكر الكنعاني،

لست اثرا اوحجرا في متحف،

انا الحضارة والزراعة والكتابة والمدن والاسماء،

انا الاول والاخير على هذه الارض،

لن تسكتني جرافات المحو والأزالة،

وطمس عمري المديد،

ولا التدمير والتشويه واختلاق خرافات من التوراة،

اقرواني كلما هطل المطر وتعمدت الشمس بدم السماء.

فلسفتي الوطنية بسيطة كالماء:

أن الوطن ليس علمًا يُرفع،

بل نبضةٌ في القلب لا تُطفئها المقابر،

وفلسفتي الإنسانية أشدّ قدمًا من الموت:

أن الإنسان لا يُقاس بما يملك،

بل بما يحميه من النسيان.

قالوا: ما جدوى عودتي من التاريخ في زمن الإبادة؟

فقلت: عودتي هي ما يبقى حين لا يبقى شيء،

هي أن تفكر وأنت تحت الأنقاض،

أن تقول “أنا هنا”

ولو لم يبقَ من صوتك سوى صدىٍ في الذاكرة.

أنا المفكر الكنعاني،

ابن الغبار والنور،

ما زلتُ أكتب على الحجارة:

ستعود الأرض لمن فهمها،

وستعود الرواية لمن عاشها،

وستعود فلسطين لمن يفكر بها حبًّا…

لا كرمزٍ، بل كأبدٍ لا يُمحى.

يا ابناء الارض،

كونوا كنعانيين من اللحم إلى العظم،

عشاق الحياة رغم الفناء،

صناع المعنى رغم الخراب،

ولدت قبل حدودكم، قبل لغاتكم، قبل حروبكم،

كنت أرى في الإنسان ظل الاله،

وفي الأرض وجه الام،

وفي الحرية نشيد الوجود.

 

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى