عيسى الشعيبي يكتب – عن الانسحاب من الجامعة العربية
عيسى الشعيبي *- 22/9/2020
تحت وطأة حسٍّ عميق بالمرارة، وشعورٍ جارف بالخذلان، تفشيا كالوباء في أوساط الفلسطينيين عامة، عقب تطبيع الإمارات والبحرين علاقاتهما مع دولة الاحتلال العنصري، علت أصوات في الداخل والخارج، تطالب بانسحاب منظمة التحرير من جامعة الدول العربية، احتجاجاً وردّ فعل على رفض وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم أخيرا مشروع قرار فلسطينيا يدين خطوة أبوظبي المزمعة، ويرفض، في الوقت ذاته، كل مسعىً تطبيعي مماثل ينتهك الالتزام ببنود مبادرة السلام العربية التي ظلت محل إجماع، ولو في ظاهر الأمر، 18 عاماً حافلة بالتحوّلات والانهيارات المدوية على كل صعيد.
لم تلق الأصوات المنفعلة بجسامة التبعات المترتبة على الخطوة التطبيعية هذه صدى واسعاً في الفضاء السياسي الفلسطيني، الملبد بشتى الأصوات المتداخلة، ومختلف المواقف والعواطف والانحيازات المسبقة، فذهبت الدعوة العبثية هذه إلى حال سبيلها بلا ضجيج، على نحو ما تذهب إليه كل الزوابع في الفناجين، وتبدّدت مثل كل الخطابات الخارجة عن رشدها، سيما وأن بعض تلك الأصوات جاءت مزمجرةً أكثر مما ينبغي، هائجة، تشي بشبهة نبرةٍ إيرانيةٍ موظفةٍ في خدمة أجندة ما يعرف بمحور الممانعة، وهو أكبر مستثمر سياسي في منجم القضية الفلسطينية، وصاحب أشد الشعارات صخباً ولغواً وعنترية.
ما كان مقدّراً لمثل هذه الدعوة الطائشة ان تجد مرحبين بها من أولي الأمر، ولا مستمعين لها في أوساط النخبة السياسية الفلسطينية الملتاعة، فالقابضون على الجمر لم يفقدوا صوابهم، على الرغم من انخساف الأرض تحت أقدامهم، ولم يخرج أولياء الدم عن طورهم، فيقفزون في الهواء بعماء بصيرة، ويقترفون خطأ إطلاق الرصاص على أقدامهم نكاية بغيرهم، حيث رجح الاعتدال والعقلانية، فضلاً عن الحكمة ورباطة الجأش، على لهب الانفعالات المكتومة في الصدور، واعتصم الرازحون في الأسر الطويل، الترك والحصار المديد، بحبل الصبر الجميل، الصمت والنفس الطويل، إلى أن ينجلي ليل هذه المرحلة الرديئة عن صبح جديد.
لم ينبنِ الموقف الرسمي الفلسطيني الصائب، إزاء رفض الدعوة العدمية إلى الانسحاب من جامعة الدول العربية، على أي رهان حول إمكانية عودة الروح إلى جسد هذه المؤسسة الشائخة، أو تم اعتماده لأن هناك من يعوّل كثيراً على بيروقراطية لا يملك أمينها العام أمراً من أمورها الحقيقية، وإنما لأن قرار الانسحاب أقرب ما يكون إلى صرخة في واد بلا زرع، وإشهار حالة يأس لا محل لها مطلقاً في حمأة الصراع، إن لم نقل نوعاً من الاستسلام المتسرع لأمرٍ واقع قد يتغير في منطقة حبلى بالمتغيرات، وهو ما يقتضي بالضرورة الموضوعية مواصلة التشبث بأهداب الحياة، والبناء على قاعدة أن اليأس ليس خياراً حتى في أحلك الأوقات.
ومع أن الحفاظ على العضوية في جامعة الدول العربية لا يقدّم ولا يؤخر، وقد لا يكون مفيداً لأيٍّ من الأعضاء، سيما وأن هذه المنظمة الإقليمية لم تعد قادرةً على الهش أو النش، أو قل بلا حول ولا قوة، إلا أن الانسحاب الفلسطيني من الجامعة، وهي حائط مبكاهم السياسي، هكذا من دون تبصر أو احتراس، كان من شأنه أن يخدم المتربصين، وأن يقدم هدية مجانية لإسرائيل، وربما لحلفائها الجدد، ممن سيتبادلون معها التهاني والأنخاب، وقد يقول بعضهم “يستحقون هؤلاء الأوغاد” فيما سيعتبر الآخرون مثل هذا القرار الساذج ذريعة إضافية للتنصل من أي التزام سياسي وأخلاقي تجاه الشعب الفلسطيني، بحجة خروج “ناكري الجميل” عن الصف العربي.
والحق أن جامعة الدول العربية التي كانت قد فقدت دولة ارتكازها، وخسرت رافعتها الكبرى، منذ تخلت مصر عن دورها القيادي قبل نحو أربعة عقود، هي اليوم مؤسسة يُرثى لها، بل تستحق الشفقة على ما آل إليه حالها، وبالتالي لا تثريب عليها (لا لوم ولا عتاب)، ويكاد وضعها يشبه وضع معظم المنظمات الإقليمية والقارّية الأخرى، لجهة قلة الفعالية وانعدام المضاء، فيما لا يُشكل التطبيع الإماراتي والبحريني نهاية التاريخ، ولا خاتمة مطاف كفاح شعبٍ لم تنطفئ له شعلة، ولم تنكسر له روح، مرّت به نوائب بلا حصر، وتكسّرت على ظهره النصال فوق النصال، إلا أنه ظل يربي الأمل كما كان يربي الأولاد والورود والبنات، يقاوم بكل الأشكال المتاحة، ويحاصر الحصار، ويصنع معجزات الانبعاث مجدّداً من تحت الرماد.