أقلام وأراء

عيسى الشعيبي يكتب – أسئلة إعمار غزّة

عيسى الشعيبي *- 22/6/2021

قد تبدو الأسئلة المتعلقة بإعادة إعمار قطاع عزة مبكّرة بعض الشيء، سيما وأن شهراً واحداً فقط مرّ على وقف إطلاق نار لا يزال هشّاً، كما أن لدى الأطراف المعنية بهذه المسألة أولويات متضاربة، ليس في مقدّمتها عملية إعمار ما دمّرته الحرب الوحشية على القطاع المحاصر، وفوق ذلك تزايد حدّة الخلافات الداخلية الفلسطينية، وتكاثر عدد الاشتراطات المتبادلة بين المخاطبين بهذه العملية، الأمر الذي قد يؤدّي إلى تأخير الخطة، وربما يفضي إلى تقويضها قبل أن تبدأ.

هناك حزمة من الأسئلة المقلقة بهذا الصدد، لعل في مقدمتها السؤال عن سبب كل هذا التأخر في مسح الأضرار وتقييم حجم الدمار، فضلا عن غياب النية لعقد مؤتمر دولي، مماثل لسابقيه، مكرّس لجمع الأموال وإنشاء آلية دولية تُشرف على مخصصات إعادة البناء، وحدّث بلا حرج عن الإملاءات والقيود الإسرائيلية المسبقة على كل ما يتصل بالمدخلات الخاصة بترميم المنازل والبنية التحتية والمنشآت، بذريعة الخشية من استخدام الأموال والحديد والإسمنت في بناء الأنفاق.

على أن أكثر الأسئلة مدعاة للحرج تلك المتعلقة بالخلاف بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس، حول من يتولّى مهمة إعادة الإعمار، الأمر الذي يعيد إلى الذاكرة المثخنة تلك الخلافات المشابهة، عقب آخر عدوانين سابقين، ويبعث أشد المخاوف من ضياع فرصة ثالثة، قد تذهب أدراج الرياح، مجدّداً، على صخرة نزاع يبدو بلا نهاية، تعلو فيه الحسابات الصغيرة على المصالح الجوهرية، وتستبد خلاله اعتبارات الشرعية والأحقية والمكانة على ما عداها.

ومع أنه لا توجد، اليوم، حماسةٌ مماثلةٌ لما كانت عليه اندفاعة المانحين الذين تعهدوا في مؤتمرين دوليين، بدفع مليارات الدولارات في كل مرّة، لإعادة إعمار غزّة، إلا أن الخلاف المشين على جلد الدب قبل اصطياده يحتدم تلقائياً من جديد، على خلفية المنافسات العقيمة ذاتها، من دون أدنى اعتبار لواقع حال أهل القطاع الغارقين في الفاقة والعوز والحاجة لكل شيء، بما فيه الغذاء والماء الصالح للشرب، ومن دون انتباهٍ إلى أن الاحتفال بالانتصارات لا يسدّ رمقاً، ولا يغني عن سؤال.

ولعل ما جرى لوزير الأشغال العامة والإسكان التابع للسلطة الفلسطينية، محمد زيارة، قبل أيام، لدى دخوله قطاع غزة، آتياً من رام الله، بما في ذلك التحقيق معه، ومنعه من ممارسة عمله، أشد النذر خطورةً على ما ينتظر إعمار القطاع المدمّر من إعاقات واستعصاءات، وربما إغلاق نوافذ الفرص، حيث من المتوقع أن يُحجم المتبرّعون الدوليون، والحالة هذه، عن الوفاء بتعهداتهم، وقد يتذرّعون بهذه الواقعة العابثة للتنصّل مما التزموا به، تماما على نحو ما جرى بعد المؤتمريْن السابقيْن.

ليس مقدّراً لعملية الإعمار المرجوّة هذه أن تبدأ من أول السطر قبل تحويل وقف إطلاق النار الذي أعلنته إسرائيل من جانب واحد، وقبلت به “حماس” بلا شروط، إلى هدنة طويلة، مشابهة للتي وقعت بعد عدوان عام 2014، لجلب التبرّعات أولاً، ووضعها بين أيدي السلطة ومصر وقطر حصراً، وفق شرط أميركي مسبق، حيث تبدو الخطوتان الاستهلاليتان هاتان عصيتين على التحقّق في المدى المنظور، ليس بفعل إصرار سلطة غزّة على تولي المسؤولية، وإنما كذلك بفعل ربط الاحتلال ملف أسراه بملف إعادة الإعمار.

إزاء ذلك، تبدو المقدّمات الخاطئة، والمؤشّرات الأولية المحبطة، ناهيك عن المواقف المتعارضة بشدّة، بشأن هوية إدارة إعادة الإعمار، بمثابة نبوءةٍ تشاؤميةٍ مبكّرة إزاء راهن ومستقبل عمليةٍ يعوّل عليها الغزيون بلهفة، وينتظرونها بفارغ الصبر، خصوصا ممن تهدّمت ببوتهم، ولجأوا إلى مدارس “أونروا”، حيث يراقب هؤلاء المشهد عن قرب وهم بلا حوْل، متوجّسين من تكرار التجارب السابقة، ومدركين، في الوقت نفسه، أن عامل الزمن الذي لا يرحم يعاندهم بشدّة، ويعمل ضدّهم بقسوة، ويضاعف من مأساتهم.

بكلام آخر، يبدو أن غزّة التي كانت تقف على مفترق طرق طوال عقود طوال، تقف الآن على مفترقٍ أصعب من ذي قبل، بعد أن أدّت ما عليها وأزيد، وتحمّلت فوق طاقتها وأكثر، وتعرّضت وما تزال لخطر عدوان وحشي آخر، وتجلّدت إلى أن صارت حياة الناس فيها لا تشبه الحياة، الأمر الذي يحتّم إجراء الحساب المؤجّل مع النفس، بعيداً عن الأهواء والأوهام والرهانات والشعارات التي لا تُطعم بالمجّان، فهذه لحظةٌ يُحذر التفريط بها، لمنح غزّة فرصة للتنفس، والعيش بكرامة، وهي جديرةٌ بها على أي حال.

*عيسى الشعيبي – كاتب وصحافي من الأردن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى