عياد البطنيجي: هل استراتيجية حماس تسمح بعودتها للحكم؟

عياد البطنيجي ١٨-٥-٢٠٢٤: هل استراتيجية حماس تسمح بعودتها للحكم؟
وصلت مفاوضات صفقة التبادل بين حماس وإسرائيل إلى طريق مسدود، ويكمن السبب في تصور العلاقة بين القوة العسكرية والهدف السياسي، ومن دون تعديل هذا التصور ليعمل وفقًا لموازين القوى لن نحصل على نتائج مختلفة. ونرى أن هذا التعديل سيكون إجباريًا حتى لا تدخل حماس في الإهمال.
والواقع أن هدف كل طرف يناقض هدف الطرف الآخر: تريد حماس صفقة شاملة تنهي الحرب الأمر الذي يشكل ضمانة لإمكانية تحقيق الهدف السياسي للمقاومة المتمثل في العودة مجددًا إلى حكم قطاع غزة؛ بينما تريد إسرائيل صفقة محدودة لتبادل أسرى مع هدنة مؤقتة تستأنف بعدها القتال. ذلك يعكس اختلافَا بنيويًا بين الموقفين يعود إلى تصور كل طرف لموقع الصفقة من الهدف الاستراتيجي.
بالنسبة لإسرائيل إن مسألة المختطفين مسألة عرضية ليست من ماهية الحرب، بينما مواصلة الحرب حتى تحقيق أهدافها السياسية تعد مسألة جوهرية، إذ إن المختطفين ملف إنساني لا استراتيجي، وأما الحرب فهي من أصول الاستراتيجية العليا. في الجانب المقابل، ترى حماس أنها لا تملك سوى ورقة المختطفين لتحقيق أهدافها كلها جملة واحدة لا تمرحل فيها فلا تترك شيئًا لميدان القتال تراهن عليه، في إشارة إلى عجز قوتها عن تحقيق هدفها السياسي بالاقتصار على الميدان، فتحاول حماس تعويضه بمفاوضات الصفقة. ونرى أن علاقة المفاوضات بميدان القتال ليست علاقة استكمال بقدر ما هي علاقة قطيعة، أي عدم وجود تناغم بين القدرة العسكري في الميدان والهدف السياسي التفاوضي، وههنا بالضبط مأزق حماس الذي يفسر تصلبها في المفاوضات.
هذا التناقض جعل إسرائيل تدرك أن صفقةً مع حماس أشبه بالمستحيل، ولذلك باتت تستخدم مفاوضات الصفقة لتحييد ورقة المختطفين في الداخل وفصلها عن وظيفة الحرب للالتفاف على الضغط الداخلي، وبالتالي مواصلة القتال في قطاع غزة.
اللافت أن حماس تعمل في السياسة ولا تفكر وفقًا لميزان القوة بل أنها تأخذ مواقف مستحيلة. في السابق أجادت حماس اللعب مع إسرائيل دون تجاوز العتبة آخذة في اعتبارها الفجوة في القوة، وذلك لتوليد آثار استراتيجية دون معاناة عواقب العملية العسكرية الإسرائيلية. إن العمل دون تجاوز العتبة شكل أحد الأصول الاستراتيجية في تحقيق بقاء حوكمة حماس في غزة منذ 2007، أي في الكيفية التي أدارت بها الحركة العلاقة مع إسرائيل انطلاقاً من مطالب قابلة لتطبيق لا تتعلق بجوهر الصراع. وفي قلب هذه الكيفية جرى التركيز على الصراع باعتباره عملية مساومة أكثر من أي اعتبار آخر. كانت المساومة واحدة من المحددات الأكثر احتمالية لحل عقلاني عملي ممكن للنزاع بين حماس وإسرائيل للوصول إلى توقعات عقلانية تجنب الطرفين أخطار متبادلة، وبالتالي تحقيق أفضل الترتيبات التي يستطيع كل طرف الحصول عليها.
في السابع من أكتوبر تجاوزت حماس العتبة فعرَّضت غزة إلى حرب إسرائيلية واسعة وشاملة وطويلة تهدف إلى إحداث تغيرات جذرية في غزة ورسم واقع جديد. كانت استجابة حماس هي مواصلة القتال مهما كلفها الأمر غير عابئة بالوضع الإنساني ولا بالفجوة الاستراتيجية بينها وإسرائيل. وهنا يثور السؤال: ما هي أدوات الضغط التي تمتلكها حماس لتجبر إسرائيل على قبول مطالبها المتمثلة في العودة إلى حكم قطاع غزة؟ لا مشاحة أن طموح حماس أن تلعب دورًا في اليوم التالي للحرب، لكن ماذا عن قوتها العسكرية ما إذا كانت تستطيع تحقيق هذا الطموح وإخراجه من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل؟
الاستراتيجية في أبسط معانيها تعني استخدام القوة العسكرية في تحقيق الأهداف السياسية. أصبحت حماس في الفترة الأخيرة أكثر انكشافًا في مطالبها الفعلية، في مفاوضات الصفقة لم تطلب أي شيء يتعلق بالأقصى ولا بالضفة، ما تطالبه هو أن تعود مرة أخرى لإدارة جهاز السلطة في قطاع غزة، ولا تهادن عن هذا الشرط. وهذه مسألة وجودية بالنسبة لها. فهل بمقدور القدرة العسكرية للمقاومة تحقيق هذا الهدف؟
وبالفعل خسرت حماس بعد السابع من أكتوبر مركز اهتمامها الحكومي من مقرات ومبانٍ ووزارات ومؤسسات قانونية وقضائية والمحاكم فضلاً عن الضرائب والمعابر، وهي بذلك تكون قد خسرت كل ما اكتسبته بفضل وجودها الحكومي. وفي سياق مواصلة جيش الاحتلال لعملياته في غزة، تواصل حماس إعادة التموضع في المناطق التي ينسحب منها الجيش لتؤكد على استمرارية قدرتها، وأنها ما تزال في الصورة، وتقوي بذلك قصدية أن حماس تعود إلى إدارة الأمور في غزة، وإظهار سيطرتها على مجرى الحياة، وهي تفعل ذلك بهدف أن تستشف إمكانية إعادة حوكمتها إلى غزة.
عند وضع إمكانية حماس في إعادة إنتاج قوتها السياسية في سياق تاريخي، يتبين لنا أن قدرتها على نشر سلطتها السياسية كانت مشروطة بوجود السلطة الفلسطينية أو بعدم وجود الاحتلال الإسرائيلي، وهما وضعان تشكلا في أفق اتفاقية أوسلو. كانت استجابة حماس في تحولها من مجمع إسلامي وحركة دعوية إلى حركة سياسية وعسكرية، حتى تمكنت من السيطرة الكاملة على قطاع غزة وتشكيل حكمها السياسي في عام2007 . وبعد الانسحاب الإسرائيل من غزة من جانب واحد عام 2005 عاشت حماس أزهى عصورها فقد راكمت قوتها العسكرية، وبسطت سيطرتها الشاملة السياسية والأمنية على قطاع غزة، وتحكمت بالحالة الفصائلية والمدنية تحكمًا كاملًا، وجعلت قطاع غزة يعمل على نحو مواتٍ لأهدافها السياسية وخططها. إن وضعًا يوجد فيه الاحتلال الإسرائيلي، أو يوجد الاحتلال والسلطة الفلسطينية، كما هو الحال في الضفة، يحرم حماس من إعادة انتاج جهازها السلطوي. إن اللحظة المثالية لحماس كانت لحظة تشكل أوسلو حيث وفر مناخًا مناسبًا استثمرته حتى أصبحت مركز التحكم السياسي في قطاع غزة دار في فلكه كل الطيف السياسي، وهو وضع فقدته تمامًا.
وعليه فحماس بوصفها حركة سياسية وجهاز سيطرة وتحكم مشروطة بأوسلو، ولن تستطيع التدفق من دونه، الذي مكنها في السابق من السيطرة على غزة بوصفها الكون السياسي لحماس. من هذه الحيثية، نرى بأن هدف الاحتلال المتمثل في بسط السيطرة العسكرية والأمنية في غزة يحرم حماس من أي إمكانية لإعادة إنتاج هيكل حكمها المدني وبالتالي نشر سيطرتها المنفردة على قطاع غزة.
في الحقيقة، أن تعود إلى ما كانت عليه قبل الانتفاضة الأولى إلى مجمع إسلامي وجهاز دعوى، فهذا وضع مرعب لحماس، فضلًا على أنه غير ممكن لأسباب ذاتية تخص طبيعتها بوصفها حركة سياسية أصلًا. أي بوصفها حركة لا تقوم، كما نعتقد جازمين، على تلك الثنائية الموهومة الرائجة عن حماس بوصفها “سلطة ومقاومة” و“دين وسياسة” و“وطنية وإسلامية” أو ” أيديولوجية وسياسية” نحن نرفض أن هناك موقعين تتأرجح الحركة بينها، ونرى أنه ليس هناك إلا موقعاً واحداً تقوم وحدته وعصبته على مبدأ الأداء السياسي التحكمي، وصل هذا المبدأ منتهاه وتحققت غايته الأسمى في الاستئثار بحكم قطاع غزة انطلاقاً من أسبقية السلطة، ومن هذه الحيثية تمارس حماس الحكم والمقاومة، الدين والسياسة، وصار الدين نفسه يستخدم في الأفق السياسي لحماس وعبر اختراع ممكنات جديدة.
وختامًا لقد دخلت حماس في أعقاب العملية العسكرية الإسرائيلية في وضع في غاية التعقيد حيث لا إمكانية للتراجع ولا إمكانية للتوقف ولا إمكانية للتقدم، وقد اختارت الاستمرار حتى آخر لحظة، وبهذه الخيارات ستندفع إسرائيل إلى إعادة احتلال قطاع غزة لبسط السيطرة العسكرية والأمنية الشاملة. وعليه أن هدف حماس في العودة إلى حكم قطاع غزة في ظل وجود الاحتلال العسكري مستحيل كما بينا آنفًا، وبالتالي ستتحمل غزة ما يترتب على عدم الاعتراف بهذه الاستحالة من نتائج كارثية. الأمل الوحيد المتبقي لحماس، وأعتقد بأنها تفكر فيه، هو أن يعيد الاحتلال النظر في موقفه منها وأن يقبل بأن تعود للحكم مرة أخرى وهذا ليس إلا ذهانًا سياسيًا.