أقلام وأراء

عياد البطنيجي: مجزرة مخيم النصيرات: المقاومة وغياب الخيال الاستراتيجي

عياد البطنيجي 11-6-2024: مجزرة مخيم النصيرات: المقاومة وغياب الخيال الاستراتيجي

سخّف خطاب المقاومة عملية جيش الاحتلال لاستعادة المختطفين في محيط سوق النصيرات حيث مكان احتجازهم، والتي تمت في ظروف عملانية صعبة ومعقدة كونها تقع داخل المخيم المكتظ سكانيًا حيث خلفت عددًا كبيرًا من الضحايا المدنيين. تقول المقاومة إن العملية لن تؤثر على صفقة تبادل الأسرى كونها أصلًا لا تحتاج إلى عدد كبير من المختطفين، فما تزال المقاومة تحتجز العدد الأكبر (120 مختطفًا). لقد حررت حماس في صفقة شاليط ألف أسير مقابل أسير إسرائيلي. وعليه، إن عددًا قليلًا من المختطفين كافٍ لإنجاز صفقة كبيرة. والنتيجة أن عملية النصيرات لن تغير الثمن الذي سيدفعه الاحتلال كما قال القيادي في حماس عزت الرشق، ولن تحرم حماس من إمكانية تحقيق نجاحٍ سياسي من خلال صفقة تبادل. 

ما دام الأمر على هذا النحو، ألم يكن من الأنفع للمقاومة ألا تشتبك مع قوات الاحتلال كي تتجنب المس بالمدنيين؟! فبعد أن انكشف مكان احتجاز المختطفين كان من الأفضل ترك القوات تأخذ المختطفين الأربع لأنه خيار الأقل تكلفة. فطالما أن حماس وضعت المختطفين في منطقة آهلة بالسكان وفشلت في حمايتهم كان يجب عليها أن تحسب رد فعل العدو عندما يسعى إلى تخليصهم. ففي ذلك تقصير ومسؤولية كبيرة. 

 ما أقصده هو كان يجب على مقاتلي حماس الحيلولة دون تحويل مكان تخليص المختطفين المكتظ سكانيًا إلى ميدان قتال. فماذا كان على قوات الجيش أن تفعل غير فتح النار عندما تجمع أعداد كبيرة من مقاتلي حماس المسلحين بقذائف الآر بي جي، فذلك يعني أن يفرض على القوات استخدام نار كثيف من جانب سلاح الجو وقوات أخرى من أجل تخليص المختطفين من المخيم بسلام فضلًا عن حماية القوات على الأرض من قبل هجمات مقاتلي حماس. والنتيجة أنها جعلت المدنيين محلًا للهجوم فكانت المجزرة. وهكذا فالعملية الخاصة الهادفة إلى تخليص المختطفين الأربع تحولت إلى عملية عسكرية مكشوفة، واستحالت إلى ميدان قتال بفعل من مقاتلي حماس ناتج بالطبع عن منطق التواطؤ بين الفعل ورد الفعل أو الاستجابة المتبادلة.     

من نافلة القول إن هناك استعدادًا مسبقًا لدي قوات الاحتلال لفعل أي شيء مهما كان الثمن لإنجاز مهمة استعادة مختطفيه هذه هي طبيعة الجيش الإسرائيلي، لكن في المقابل كان يمكن أن تختلف النتائج لو تصرف الطرف الآخر بطريقة مختلفة بهدف منع المس بالمدنيين. نحن نقول إن النقد السياسي لأفعال إسرائيل في قطاع غزة لا يحتاج إلى شجاعة، فهوية إسرائيل معروفة لنا كفلسطينيين، المشكلة في النقد الداخلي لأفعال المقاومة التي تؤثر في تحديد خيارات العدو، هذه الهوية نحن نختلف عليها. لا مراء أن ما جرى في مخيم النصيرات ليس ناتجًا عن عنف إسرائيل وجبروتها فحسب، بل هو أيضًا نتاج اختلال داخلي لدى المقاومة. هناك أسباب عديدة هيكلت سياق العملية في مخيم النصيرات حيث كانت النتائج كما شاهدناها إذ صنعت هذا العدد الكبير من الضحايا. لم تكن المقاومة خارج تشكيل ميدان القتال في مخيم النصيرات وبالتالي ساهمت في تهيئة الظروف العسكرية لذلك في الوقت الذي كان يجب عليها الامتناع عن تحويل المكان إلى ميدان قتال، بينما ما فعلته هو العكس تمامًا.  

منذ بداية الحرب على قطاع غزة، لم نشهد خيالًا استراتيجيًا خصبًا للمقاومة، فهذا الخيال مشروط بالخضوع للواقع وحده ما يضمن استقامة الممارسة القتالية. لقد اختصت قناة الجزيرة في تحويل الحرب إلى تشكيل خطابي تنتصر فيها حماس صوريًا عبر تحويل ميدان القتال إلى مصنوعات إعلامية كتعويض عن فقدان الخيال الاستراتيجي. 

كان ينبغي ألا يكون هدف استراتيجية حماس مواجهة جيش الاحتلال بقدر مواجهة العقل الذي يقف وراءه هذا الجيش. هذه قاعدة كان يجب ألا تفقدها حماس بوصفها الطرف الأضعف في هذه الحرب غير المتكافئة مع إسرائيل. إن الطرف الأضعف في المواجهة ينبغي ألا يفقد فهم كيف يعمل عقل العدو حتى لا يفقد إمكانية التأثير، فهذا التأثير لا ينفك عن ضرورة التحرك وفق طبيعة الخصم وليس وفق ما نرغب فيه.  هذا ما يقودنا إلى قوانين ميدان القتال التي تشكل مفاتيح فهم عمل الجيش في القطاع أثناء المواجهات. 

وبالفعل لا يقيد قانون الحرب أو القانون الدولي الإنساني جيش الاحتلال، إن ما يقيده بالفعل هو قانون ميدان القتال. إذًا السؤال هو كيف يعمل ميدان القتال؟ 

يشكل وجود المدنيين مشكلة للجيش وبالتالي الفرز بين المدنيين والمقاتلين. هناك حيل قانونية يلجأ إليها الجيش للتهرب من المسؤولية القانونية وتجنب العقاب الدولي في حالة تعرضه للسكان المدنيين. على سبيل المثال إن الإنذارات المسبقة التي يرسلها الجيش التي تهدف إلى إخلاء السكان لبيوتهم والانتقال إلى الأماكن الآمنة لأجل تهيئة ميدان القتال، فالهدف منها هو إعادة تعريف السكان أكثر من أي شيء آخر. بمعنى أن من يصر على البقاء يتجرد من صفته المدنية ويصبح مقاتلًا أو مخربًا كما تصفه أدبيات الجيش. فالمقاتل بالنسبة للجيش الإسرائيلي هو أي شخص يدخل إلى ميدان القتال حتى وإن لم يكن مسلحًا، فيكفي أنه قد وجد في ميدان القتال ليتجرد من صفته المدنية. وعليه، المكان هو من يعين صفة المقاتل أو المدني. وهكذا تصبح القدرة على التدمير الشامل ممكنةً قانونيًا، وبالتالي كل من يُقتل في ميدان القتال يصنف مقاتلًا. هذه هي عقلية الجيش. 

ففي ميدان القتال الأولوية هي حفظ النفس، وبالتالي العمل بأقصى قوة في حالة التوتر بين الحفاظ على القوات وبين تجنب قتل المدنيين. وهكذا يبدو من الصعب ممارسة سياسة نيران بصورة أكثر مسؤولية تجاه السكان في الحروب غير المتكافئة. فالجيش لا يتورع عن العمل بأقصى قوة في ميدان القتال هذه هي حدوده وإمكاناته، هذه هي طبيعته. فميدان القتال بالنسبة له عبارة عن صفحة بيضاء وهو ما يجعله موضوعًا للتدمير. وبالفعل يستعمل الجيش في ميدان القتال القوّة المفرطة كي يعوض أي إمكانية لاحتمال فقدان السيطرة وبالتالي القدرة على إعادة تشكيل الميدان. وهكذا يصاحب الحروب غير المتكافئة استراتيجية الإفناء والتدمير الواسع كسبيل لتملك الميدان. وهكذا، يعد التدمير موضوعًا للحرب غير المتكافئة لا تتعيّن إلا به.

وعليه يصبح السؤال كيف يمكن العمل مع هذه الطبيعة للخصم؟ كيف يمكن التحايل عليها، ما هي السبل والخيارات التي من خلالها يمكن التأثير في الخصم؟ هذه أسئلة الطرف الأدنى في العلاقة التي تجعله، أي حماس، التعامل بواقعيه مع ميدان القتال. إن رد فعلها إما يزيد من عنف الجيش وإما العكس. فاستجابة قوات الجيش تتوقف على استجابة الخصم(حماس). هناك تواطؤ موضوعي، المسألة تبادلية، تتعلق بكيفية استجابة كل طرف للآخر، مع فارق القوة بالطبع، ففي الأصل هي حرب غير متكافئة الفجوة في قوة النيران لا تعمل في صالح الطرف الأدنى. مرة أخرى كان في الأصل ألا تضع حماس المختطفين في مكان مكتظ بالسكان، وهي وإن فعلت كان يجب عليها حين انكشف أمرهم لقوات الجيش ألا تحول المكان إلى ميدان قتال.  

 ولهذا فهناك مسؤولية أخلاقية كبيرة تقع على عاتق الطرف الأضعف في العلاقة غير المتكافئة، فاستراتيجيته ينبغي أن تقوم على معرفة حدود وإمكانات الخصم وبالتالي طبيعته، من خلالها، ومن خلالها فحسب، يستطيع التحكم في درجة عنف الخصم تجاه السكان. 

ما نلاحظه على حماس هو التخبط والتجاهل للحقائق الاستراتيجية والتكتيكية في الميدان، فهي ما تزال بعيدة عن الجدية والممارسات الصحيحة. فليس أمامها سوى خيارات محدودة، والواقع يضيق على القطاع وعلى حماس، والأثمان تزيد. فلا يمكن تجاهل الواقع إلا بثمن، وكلما طال أمد التجاهل أصبح الثمن الذي يجب دفعه أعلى وأفدح. إن ما نلاحظه على سكان القطاع هو أنهم غير مقتنعين بنموذج مقاومة حماس، فالجميع بات مدركًا أن الوظيفة الأولى للمقاومة في هذه الحرب هي الحكم، فهي حرب من أجل الصراع على الحكم.

  لقد كتبنا في السابق عبر هذا المنبر، أن أفعال حماس في ميدان القتال محكومة بمنطق التدهور الاستراتيجي، واليوم تكشف لنا مجزرة النصيرات وبالرغم من توحش جيش الاحتلال، إلا أن مقاتلي حماس لو تحلوا بخيال استراتيجي لكانت النتيجة مختلفة. في الحقيقة أن ما وصل إليه سكان قطاع غزة من جراء سياسات حماس هو نتيجة العناد والعيش في الوهم والعيش في الخداع فما تزال تتوهم بأنها يمكن أن تعود لحكم القطاع. كان يجب على حماس أن تسأل نفسها فبعد مرور تسعة أشهر فهل قوة المقاومة قادرة على تحقيق هدفها الاستراتيجي في استئناف الحكم من جديد والعودة إلى ما قبل السابع من أكتوبر؟ بالطبع الجواب بالنفي. لكن يبقى أصل المسألة هو ماذا يعني أن تحكم حماس تحت الاحتلال؟ إن الهدف إسرائيل الاستراتيجي من الحرب على غزة ليس إنهاء الظاهرة العسكرية فحسب عبر نزع سلاح المقاومة بل نزع السياسة عن المسألة الفلسطينية وإعادة تشكيلها بأفقٍ جديد. 

في الختام، بعد أن عينت حماس النموذج المعياري للسلطة والمقاومة في قطاع غزة وفرضته على السكان طوال فترة حكمها القطاع، اليوم انجلى الأمر فقد دل نموذجها السيف على سكان غزة وساقت إليهم الحتف. وبعد كل ذلك، ما تزال حماس تراهن على صمت الناس حيث تطالبهم بالصمود فلا عذر لهم إن انزاحوا عن الصمت، ففصائل الحركة الوطنية كلها صمدت أمام العدو فلماذا تستكثرون على حماس الصمود! هذا ما قاله فعليًا القيادي في حماس غازي حمد. هنا تُعين حماس الممنوع وانتهاك الممنوع، وتُلزم غيرها بالصمت ولا تلزم نفسها بشيء. لله الأمر من قبل ومن بعد. 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى