أقلام وأراء

عياد البطنيجي: حماس والفراغ: التحول إلى نموذج البر

عياد البطنيجي 17-6-2024: حماس والفراغ: التحول إلى نموذج البر

تكمن مشكلة حماس في فقدانها الإحساس بالواقع فما تزال تعيش وفق معادلات الماضي تكرر المناهج المستنفذة نفسها التي تهاوت، بينما ما تحتاجه لمواجهة التحديات الراهنة هو معادلة جديدة تستجيب للحاضر، وبخاصة أن ماضي الحركة ما عاد يمكن أن يمنحها اليقين الذاتي الذي تحتاجه من أجل إعادة التشكيل راهنًا. فالأحداث التي تواجهها لم تتوقعها ولم تشهدها من قبل، وأن الأوقات الحرجة التي تمر بها في هذه الغضون غير مسبوقة، لذلك ما تحتاجه هو ممارسة حرة للحكم وليست وفقًا لصيغة محددة مسبقًا معبَّر عنها بلائحة مطالب غير واقعية، بل مواجهة الوضع الراهن بروحية جديدة. 

بعد سيطرة الاحتلال على رفح، فقدت الحركة عمقًا استراتيجيًا ميدانيًا، وعلى إثر ذلك أصبحت في أسوأ أوضاعها المالية والعسكرية، وأكثر انكشافًا بعد أن اضطرت على تغيير أساليبها نتيجة خسارتها رفح. واللافت في الأمر، أن الحركة في مفاوضات الصفقة، أصبحت تشترط انسحاب الجيش من رفح للوصول إلى اتفاق، بينما كان من الأنفع لها الوصول إلى صفقة ورفح تحت سيطرتها بدلًا من صفقة من دون رفح، لكنها أصرت على معاندة الواقع. إن عملية تصفية القيادي رافع سلامة في مواصي خانيونس ومحاولة اغتيال محمد الضيف، هي النتيجة المباشر لسيطر الاحتلال على رفح. كما أن خروج رفح من سيطرتها خفض الثمن الذي ستدفعه إسرائيل في صفقة التبادل، في المقابل ستتعرض حماس لمزيد من الضغوط لإبداء مرونة أكبر بعد أن فقدت الميزة الاستراتيجية التي كانت ستمنحها إياها رفح في المفاوضات إذ تحولت إلى ميزة استراتيجية أصبحت تحت سيطر الاحتلال يستعملها للضغط على حماس لانتزاع المزيد من التنازلات.    

  ومع ذلك، نقول إن رفح تحت سيطرة حماس لن تمنحها أكثر من المزيد من الوقت تلتقط فيها أنفاسها فقط. لقد أصبح الظرف الموضوعي ناضجًا لهدنة مؤقتة، الهدنة بوصفها إمكانية مستقبل واردة، تتيح فرصة من الزمن نأمل بأن يجري استغلالها لإجراء نقاش عميق إزاء بدائل حماس من أجل صوغ قاعدة جديدة بدلًا من تلك التي تهاوت، وذلك لتنسيق أفكارها مع هذا الموقف الاستثنائي الراهن. فالواقع يقول إن الجيش الإسرائيلي هو الذي يفرض حجم وقوة الحرب في مواجهة حماس، وهو يعمق سيطرته على القطاع وانجازاته العسكرية والاستخباراتية والعملياتية، ويسيطر على وتيرة القتال والهجمات، وبالتالي عند النظر إلى ميزان نتائج الحرب من الواضح أن الكفة تميل للجيش. في المقابل تنهزم حماس كل يوم وتخسر المزيد من المناطق والعناصر كما أنها مقبلة على المزيد من ضرب كبار القادة بسبب تفوق العدو في جمع المعلومات الاستخبارية بعد سيطرته على غزة. 

وعليه، إن حماس في معضلة وجودية، وهي معضلة أخطر من مأزقها الاستراتيجي. في هذا السياق، نقترح نموذجًا لحل ممكن يخرج حماس من معضلتها الراهنة، أنه حل يقوم على التحول إلى نموذج البر.     

ما هي معضلة حماس بالضبط؟ 

لأول مرة تعيش حماس في وضعية الفراغ، هذه معضلة غير مسبوقة في تاريخ الحركة، أي غياب قاعدة تستجيب للتحدي المباشر في هذه الغضون وتتناغم مع اللحظة الاستثنائية الراهنة. لقد عطلت نتائج الحرب غير المسبوقة على قطاع غزة القواعد السابقة التي كانت تستند إليها حماس في توجيه ممارساتها، إذ صارت قواعد قديمة الطراز فقدت صلاحيتها في الوقت الراهن. لقد وجدت حماس نفسها في حالة من الفوضى وفقدان التوجه والتوازن، فهناك فرق بين ما تفكر فيه وما يحدث حقًا، وما تزال لم تخرج من حالة ردة الفعل التي لا تناسب مستوى الحدث. 

ليست هناك سوابق تاريخية قد وجدت حماس نفسها أمام الفراغ أو غياب القاعدة، فهذا الوضع استثنائي بحق. وهكذا، أصبحت حماس فجأة من دون منطق ممارسة مما أفقدها فعالية الحكم على الواقع. 

  في ثمانينيات القرن الماضي، كانت حماس بوصفها مجمعًا إسلاميًا تقوم فكرتها على الدعوة الدينية وفرت لها اليقين وإعادة التشكيل، ومع تحول منظمة التحرير الفلسطينية إلى التسوية في الانتفاضة الأولى أبدعت حماس معادلة جديدة في مواجهة هذا الواقع المستحدث، حيث تحولت إلى حركة مسلحة تبنت المقاومة كمنهج جديدة يعين منطق ممارساتها، ومع دخول السلطة الفلسطينية إلى مناطق الحكم الذاتي أعادت تشكيل نفسها بوصفها حركة سياسية معارضة، وبعد أن سيطرت على قطاع غزة عام 2007  ، تحولت إلى نظام سياسي مارست الحكم عبر دستور غير مكتوب عبَّر عن نفسه في مدونة من المطالب قابلة للتحقيق لا تتعلق بجوهر الصراع بل تمثَّلت الصراع باعتباره عملية مساومة، لكن بعد السابع من أكتوبر أصبحت التسويات مستحيلة بين حماس وإسرائيل.

فضلًا عن ذلك، فطوال حكمها لقطاع غزة، تعرضت حماس إلى العديد من الحروب واجهتها بمنطق عسكري مناسب مكَّنها من إعادة التشكيل مرحليًا حيث كانت الحروب المحدودة هي روح الحروب الإسرائيلية على غزة. غير أن عملية السابع من أكتوبر قلبت المعادلة رأسًا على عقب، إذ صارت الحرب الواسعة المدى هي روح الحرب الإسرائيلية على غزة.

وتأسيسًا على ما تقدم، لقد أصبحت المعادلات التي نجحت في الماضي لم تعد صالحة الآن في مواجهة نتائج الحرب الحالية.  إن خطأ حماس القاتل عندما حولت المقاومة إلى معركة مصيرية مع قوة مفرطة، بينما كان في الأصل أن تحدد ما تستطيع وما لا تستطيع فعله عسكريًا، لكن ما فعلته يقع في ما لا يجب أن تفعله بوصفها حركة مقاومة تحت الاحتلال حيث بلغ نموذجها في العسكرة أقصى ما يمكن أن يصل إليه تنظيم تحت الاحتلال الإسرائيلي. 

وعليه، تلك المعادلات الآنفة صارت من الماضي، وليست بمقدورها إخراج حماس من محنتها الراهنة، مالم تكف عن وهم استمرار حكم قطاع غزة، وأن تحرر ذهنها من الأفكار المسبقة حول النفوذ والحكم. أمام هذا الفراغ الذي تعيشه حماس، فما تحتاجه بالضبط هو قواعد جديدة يتم من خلالها التخلص من ذكريات الماضي والانطلاق نحو أفق جديد مبنية على طبيعة الأفق الفلسطيني في المدى المنظور.  

ما هي طبيعة الأفق الفلسطيني الجديد؟ 

نقولها بوضوح ليس هناك أي أفق لحماس بوصفها حركة سياسية أو نظام حكم أو حركة مقاومة مسلحة، ولذلك عليها أن تفكر بشكل واضح عبر التركيز المباشر على ما يجري الآن في غزة والتصرف على أفضل وجه وفقًا لمقتضيات الوضع الراهن. وفي هذا السياق، نرى أن مجتمع الصمود هو أفق المجتمع الفلسطيني، فمن مفارقات الزمن أن ما تفعله إسرائيل في الضفة وقطاع غزة الرامي إلى تقويض التمثيل السياسي سيفضي إلى مجتمع الصمود. بمعنى أن الفلسطينيين لعقود قادمة لن يكون ثمة أفق للمقاومة العسكرية لمدى بعيد، ولا للدولة الفلسطينية، أن حكمًا ذاتيًا قابلًا للتوسيع قليلًا مع مرور الوقت، هو الأفق الفلسطيني. وداخل هذا الأفق على حماس أن تعيد تشكيل نفسها بأفق إنساني، أي بوصفها مؤسسة من مؤسسات البر والأعمال الخيرية والأفعال المجانية، وبوصفها حركة متنزهة عن الغرض السياسي والسلطوي، تُدخل أفعالها في تحصين مجتمع الصمود القادم. نموذج البر يتقاطع مع مستقبل الفلسطينيين، وكذلك يدخل في تعزيز مجتمع الصمود عبر ترسيخ الفلسطينيين على أرضهم. يمكن لحماس أن تستفيد من شبكة علاقاتها التي راكمتها عبر التاريخ المعاصر في تحويل نفسها إلى عمل خيري لترسيخ البقاء على هذه الأرض. كما أن غزة بعد الحرب ستكون بحاجة لإعادة إعمار يمكن لها أن تسهم في تنمية القطاع وتحسين سبل العيش وتعزيز البقاء والصمود.  

يشكل التحول نحو نموذج البر استجابة إنسانية عظيمة وواقعية وضرورية تتكيف مع مقتضيات الواقع الجديد. إن نموذج البر يعني التحول إلى أفقٍ أوسع في الممارسة يتجاوز نموذج التسيد على مجتمعٍ ما زال يرزح تحت الاحتلال. في نفس الوقت تصنع حماس لنفسها موقعًا متميزًا يمنحها الإحساس بهويتها الجديدة، وكذلك تتمايز عما سواها عبر صناعة الاختلاف الذي يؤمن لها عنصر التضاد ويمكنها من إعادة التشكيل راهنًا كاستجابة لتغير قواعد الاشتباك، ويمكن أيضًا لهذه الهوية الجديدة من خلالها تعيد حماس التمييز بين الصديق والعدو عبر التفوق الأخلاقي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى