أقلام وأراء

عياد البطنيجي: حماس والخروج من الحرب

عياد البطنيجي 14-9-2024: حماس والخروج من الحرب

مما لا شك فيه أن الخروج من الحرب أصبح هدف حماس المركزي، لكن ما يصعب هذا الأمر أنها تريد الجميع بين الخروج من الحرب والبقاء في الحكم وهذا مستحيل ومتناقض عمليا بسبب الفجوة الصارخة في القوة بين الخصوم، كما أنها تتغافل عن أن بناء حكمها في غزة كان بالتواطؤ مع الخصم. وبناء عليه، لقد وضعت حماس نفسها في معضلة غير قابلة للحل، ومرد ذلك أنها تصورت نفسها قوة حكم تحت الاحتلال وفي ظلال السيادة الإسرائيلية، وبنت مقاومتها لأجل خدمة هذا الحكم، ومن هذه الحيثية هي أقرب إلى القوة العسكرية منه إلى المقاومة، وهناك فرق كبير بينهما، فقوة عسكرية تحت الاحتلال هي في الأصل اختلال في المقاومة، وبالتالي في منطق مواجهة الاحتلال، وليست بالمقاومة بوصفها في الأصل حالة توازن، وبالتالي أصبحت المواجهة بين قوة عسكرية صغيرة وأخرى كبيرة. انكشف سوء تقدير الوضع عندما سخر الناطق العسكري لكتائب القسام في خطاب له في أثناء تلويح الاحتلال بعملية برية قائلا “إن ذلك مثير للسخرية، فكيف لهذا الجيش المهشم، الذي أخرجنا فرقة منه عن الخدمة في محيط غلاف غزة أن يجرؤ على مواجهة يتمناها أعشار جيش القسام وأركانه وأسلحته”.

 كتبنا في السابق عن التحول إلى نموذج البر كأفق للخروج من الحرب، ونعلم بأن حماس لن تقبل بهذا التحول، لأن هناك سببا ذاتيا  يعطله، وأيضا التحول إلى نموذج مقاومة منزوع منه الحكم،  والمجرد من المكاسب الفورية والمصالح الذاتية والارتباطات الإقليمية كذلك أمر مرفوض لدى حماس، كما ترفض أن تعيش كمجمع إسلامي كما كانت نشأتها الأولى.

ما نود قوله ثمة قصور ذاتي يحول دون  الخروج من الحرب، ذلك لأن حماس متشبثة بمعادلة الحكم تحت الاحتلال ومن هذه الحيثية ليس لديها ما تقوله سوى تبني أوسلو ومحاولة التغفيل عن ذلك بمجموعة من الأكاذيب، وأن هذا الأمر  يفسر معاندتها للواقع وعدم اكتراثها لحال السكان وأهوال الدمار.

وعليه، تعيش الحركة حالة انتظار تلبي هزيمة دون استسلام،

وما لم تعدل تصورها لموقعها  كقوة حكم تحت الاحتلال سيبقى قطاع غزة يراوح مكانه في أتون الحرب وما يجلبه ذلك من نتائج مؤلمة. لو كانت حماس مقاومة دون حكم تحت الاحتلال منبثقة من الناس لقبلت بالتراجع  التكتيكي على أمل أن تعيد ترتيب أوراقها من جديد.

يمكن القول إن إسرائيل قابلت عملية السابع من أكتوبر بموقف صارم ينطلق من أن ما كان لن يكون، بينما تصر حماس على مقابلة ذلك انطلاقا من أن ما كان يجب أن يكون. هذا الموقف الإسرائيلي الصارم عبر عن نفسه في استراتيجية لا تقيم أي اعتبار لمقاومة حماس وقوتها العسكرية الاستعراضية في جوهرها، بل أحالت هذه المقاومة إلى دائرة التكتيك. وجوهر هذه الاستراتيجية الإسرائيلية صار معروفا ترمي إلى تجديد السيطرة على الفلسطينين في غزة والضفة، عبر مناورات عسكرية وملاحقات ومطاردات للتثبت من عدم نشوء تهديدات جديدة وبالتالي تغيير الواقع السياسي والأمني.

ربما يتساءل البعض لماذا نطالب حماس بالتراجع والتحول؟ نقول ذلك لأنها لم تقابل الاستراتيجية الإسرائيلية بحركة تعاكسها وتبطل عملها، وهي بالفعل لا تستطيع ذلك. فضلا عن ذلك أنها غير قادرة حتى الآن على فهم عمق التحول في الموقف الإسرائيلي. وعليه نقول بأنه من دون التحول في رؤية قيادات حماس عبر إجراء تغيير في ملكة الحكم لديهم ومنظورهم للواقع سوف تستمر الكارثة الإنسانية في قطاع غزة وتشتد.

والأنكى أن  حماس تقابل هذا الواقع المعقد بمزيد من المماطلة، فاستراتيجيتها قائمة على إمكانية تعديل موقف إسرائيل تجاهها عبر جملة من الرهانات كانتظار  حصول تغيير في ميزان القوة من خلال إنهاك العدو عبر حرب استنزاف ترهقه وبالتالي إضعافه، أو التحول في المجتمع الإسرائيلي واتساع حركة المطالبين بتخليص الرهائن، التي نتوقع لهذا الحراك الجماهيري في المجتمع الإسرائيلي ارتدادات سلبية على حركة حماس وقطاع غزة عموما عكس ما تراهن عليه حماس، فضلا عن رهانها على تدخل حلفاء إقليميين واتساع جبهة الصراع. لكن كل هذه الرهانات لا مصداق لها في الواقع. والمعنى أن حماس غير قادرة حتى الآن على القيام بتأثير استراتيجي حاسم، ولم تخرج حركاتها عن إطار الإشغال والمناوشات والتشتيت التي لم تؤثر على إدارة الجيش لعملياته الحربية في غزة كما لم تؤثر على مدركات صانع القرار في إسرائيل، ولم تزعزع توازنه المادي والمعنوي، ولا  على قوة النظام المعنوي ومركز التفكير القابع خلف العملية العسكرية الذي يتجلى واضحا في صرامة الاستراتيجية الاسرائيلية، وتغير المفاهيم الأمنية بعد  عملية السابع من أكتوبر.

نلاحظ تشبث حماس بمطلب خروج الجيش من محور فيلادلفيا بالرغم أن هذا المحور أصبح في دائرة الاستراتيجية الإسرائيلية، تماما كما هو الحال مع معبر رفح، وهو نتيجة من نتائج الحرب، وصار ثابتا من ثوابت السياسة الحربية تجاه قطاع غزة، وهو لذلك للاستعمال الجوهري وليس ورقة ضغط، يرمي إلى قطع الإمداد والتمويل وبالتالي السيطرة على محاور التهريب. على خلاف محور نتساريم الذي يقع في دائرة التكتيك، وليس هدفا من أهداف الحرب وهو بالتالي متغير وليس من نتائج الحرب، وهو للاستعمال العرضي كورقة ضغط وتحكم بحركة السكان، ونقطة للاجتياحات التكتيكية، ينتهي بانتهاء الحرب. نقول ذلك لأن حماس تتغافل عن التمييز بين الوقائع الجوهرية القائمة بذاتها وبين الوقائع غير الجوهرية القائمة بغيرها، لأنها في الأصل لا تريد أن تعترف ليس بنتائج الحرب فقط بل وتتنكر لهدف العملية العسكرية ذاتها دون القدرة على مواجهة ذلك بما يبطل هدف العملية العسكرية، والذي يعكس مأزقها في التعامل مع الواقع، وهي تنطلق من هذا الموقف، أي أصرارها على خروج الجيش من محور فيلادلفيا للمراوغة ولمزيد من التسويف،  والنتيجة إدامة الحرب، وبالتالي عواقب وخيمة على الوضع الإنساني. 

وعليه، أن الموقف العسكري الإسرائيلي يتحكم تحكما صار يزداد على توالي الأيام، الأمر الذي يضيق على حركات حماس،  وأصبحت المبادرة في يد الاحتلال ويده طولى اليوم يضرب في أكثر من جبهة، وكل ما يقال عكس ذلك تضليل. والمصيبة أن حماس لا تتصرف بمقتضى هذا الواقع ومصرة على مواقف ذاتية غير عابئة بالحالة الإنسانية. 

وعليه، يعاني الفلسطينيون ليس فقط من الاحتلال بل ومن نموذج حماس في مقاومة الاحتلال الذي تحول إلى ذريعة للتدمير والتهجير وإطالة أمد الحرب وبالتالي واستمرار تفاقم المحنة الإنسانية. نعم إن الاحتلال سيء، هذا بديهي، لكن نموذج حماس في مقاومته سيء أيضا، هذا هو سبب المعاناة المركب من الاحتلال ونموذج مقاومته معا. 

لقد أصبحت غزة مسرحا لعمليات قوات الجيش الإسرائيلي  يفاجئ في كل مرة حماس بتكتيكات تضعها في مزيد من المآزق مما يعمق معضلتها، فبعد أن استوفى الجيش العملية العسكرية، والذي سيطر من خلالها على قطاع غزة، وبخاصة المناطق الشرقية كافة بالإضافة إلى مركز المدينة، وبدأ ينتقل إلى العمليات الموضعية والتحرك وفق الاحتياج، لم يعد لحماس إلا تكتيك الاختباء بين السكان المدنيين في المناطق الإنسانية، وهي بذلك تقدم لخصمها مادة للاستهداف أي المدنيين لأن مقاومتها أصبحت في قلب البنية المدنية. يقابل ذلك إسرائيليا تكتيك الإخلاء وهو تكتيك يضع المقاومة في معضلة يجعلها مكشوفة أكثر، فالغرض من هذا التكتيك هو عزل المقاومة عن المدنيين وبالتالي كل من يتبقى داخل مناطق الإخلاء يتم استهدافه باعتباره ليس مدنيا. إن تكتيك العزل هذا له آثار وخيمة في إلحاق الضرر بالمدنيين بعد أن يوصلهم إلى الإنهاك واليأس من أوامر الإجلاء المتكررة حتى باتوا يفضلون البقاء على العزل مما يفاقم محنتهم ويودي بأرواحهم إلى الهلاك.

 والمساءلة تطال أيضا موقع السلطة مما يجري في قطاع غزة، وكذلك النظام العربي، إذ يتحملان مسؤولية كبيرة عن تعقيد الوضع الراهن بإصرارهما على مواقف لا تستجيب لتحديات اللحظة. فالمسألة ليست سياسية فقط فهذه تحتمل الإرجاء والانتظار، بينما الأهم  المسألة الإنسانية التي لا تحتمل الإرجاء والانتظار. إن رفض السلطة الانخراط في تشكيل الواقع المستقبلي في غزة حتى لو اقتضى الأمر الاشتباك مع حماس التي باتت على هامش السياسة الفلسطينية والدولية والإقليمية، يزيد من تعقيد الحل. فثمة فرصة  أمامها يجب اقتناصها وذلك بالدخول إلى غزة انطلاقا من الحكم الإداري متجاوزة بذلك الحكم السياسي ولو مرحليا، وأن توافق على تحمل مسؤولية المعابر والملفات الحيوية كالكهرباء والصحة والتعليم وتوزيع المساعدات، فهذا الأمر يجعلها منخرطة في تشكيل الواقع الجديد الذي يلبي أيضا المطلب الإنساني والتخفيف عن الناس، وهذا ممكن. دون ذلك يصبح الثمن الذي يجب دفعه أعلى وأفدح، ويجعل السلطة متواطئة في إدامة الحرب لأنها تراهن وهميا على الخروج من الحرب عبر أفق الدولة المستقلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى