#أقلام وأراء

عياد البطنيجي: حماس والحرب أي علاقة؟ المقاومة والتدهور الاستراتيجي

عياد البطنيجي 3-6-2024: حماس والحرب أي علاقة؟ المقاومة والتدهور الاستراتيجي

 تقديم 

عياد البطنيجي

يشهد قطاع غزة تطورات متلاحقة ومتسارعة إثر الحرب الإسرائيلية غير المسبوقة. يسيطر الإعلام على صورة هذه الحرب، وينشغل بمشهد ميدان القتال من خلال المعالجات التحليلية التي تنسحق فيها الرؤية الموضوعية تحت وطأة اللهث وراء المبالغات والاستعارات والانغماس في الأوهام في النظر لهذا المشهد وفعالية المقاومة فيه. واللافت أكثر التغفيل عن الفجوة الاستراتيجية بين الخصوم.

 وعليه، يعرض هذا المقال رواية مختلفة عن الحروب غير المتكافئة انطلاقًا من درس غزة، بالإضافة إلى تحليل ميدان القتال بصورة مغايرة لما يروجه الإعلام العسكري للمقاومة. وذلك لبيان حدود وإمكانات المواجهات غير المتكافئة، أو المواجهة بين جيش متقدم وقوة عسكرية ضعيفة، وأخيرًا طبيعة العلاقة بميدان القتال. ونقوم بهذه المهمة بمواجهة الفرضيات التالية:

–  إن القوة الأعلى ليست بمقدورها تحقيق نصرٍ حاسم على القوة الأدنى.

–  إن القوة الأدنى قادرة على إعادة التشكيل تحت الضغط العسكري. 

– العلاقة الواقعية بميدان القتال.

الإعلام وممارسة التغفيل عن الفجوة الاستراتيجية بين الخصوم 

كان لإدراج قطاع غزة في قصة الحروب غير المتكافئة تبعات كارثية. ومن هذه الحيثية، نرى أن حركة المقاومة الإسلامية “حماس” التي جعلت من المقاومة انطلاقًا من غزة مواجهة استراتيجية بين قوة أدنى وأخرى أعلى، ساهم بنصيب كبير في تعريض غزة إلى أقسى عنف تعرضت له.  

 تقوم فكرة حماس تجاه ذاتها وتجاه خصمها انطلاقًا من وجود فجوة في ميزان القوة، وأن هذه الفجوة لم تحرم حماس، في السابق، من عناصر القوة تعينها على تحقيق أهدافها، بل يمكن إعادة الاستثمار فيها من أجل تحقيق أهدافها السلطوية في الحوكمة والإدارة السياسية لغزة. بعد السابع من أكتوبر، تنطلق فكرة حماس من أن الطرف الأعلى في العلاقة (إسرائيل) لا يمكنه التمكن من الطرف الأدنى (حماس)؛ ذلك لأنها قوة ذات قدرة عالية على التكيف وإعادة التشكيل قادرة دومًا على الإفلات من قبضة الآلة العسكرية الإسرائيلية التي تفشل في تحقيق نصر حاسم، وبالتالي وضعها في مأزق استراتيجي بسبب حرمانها من تحقيق هذا النصر. 

فضًلا عن ذلك، لقد لعبت الآلة الإعلامية دورًا كبيرًا في تكريس هذه الصورة، حتى تمكنت من نفس حماس وشكلت علاقتها بميدان القتال في الحرب الحالية. لقد شكل الإعلام دورًا كبيرًا كمتغير توسط هذه العلاقة الصورية، أي في كيفية تمثل حماس لنفسها وكيفية تمثل خصمها. وهذا ما تجسد بشكل واضح عبر تحويل الواقعي إلى وجود استعاري في الحرب على غزة. 

في الواقع إن ما لاحظناه أن الإعلام السياسي والعسكري للمقاومة لا يعبر عن موضوعات فعلية بقدر ما يخلق مفردات وبلاغة لإشباع رغبة مفتقدة في الواقع. ومن هنا نرى أن حماس تقول عن الميدان بما ليس فيه، فليس من العجيب أن يحل الوهم محل الواقع، ويصبح الحديث عن الصفات الشخصية للمقاتل ضربًا من التحليل الاستراتيجي. 

فلا تزال حماس تقاتل بهدف العودة إلى ما قبل السابع من أكتوبر. قبل هذا التاريخ، وظفت حماس هذه الفجوة الاستراتيجية في ميزان القوة من أجل الوصول إلى السلطة ومن ثم تشغيل جهاز حكومي يسيطر على قطاع غزة، وبالتدريج أخذت تستثمرها لتحقيق جملة من المطالب عبر إدارة مميزة للعلاقة مع إسرائيل بطريقة تمكنها من تثبيت وضعها بغزة أولًا وتسريع تحقيق مطالبها ثانيًا. فكانت العلاقة بين حماس وإسرائيل قائمة على سلسلة من التفاهمات المبنية على المساومة والتفاوض وشراء الوقت والمنافع المتبادلة، أما بعد السابع من أكتوبر قررت إسرائيل تغيير النسق الذي كان يحكم هذه العلاقة عبر تغيير اللعبة وطبيعية المواجهة من خلال عملية عسكرية واسعة وشاملة وطويلة تهدف إلى القضاء على حكم حماس وخلق واقع جديد في قطاع غزة. 

غير أن هذا المنطق السياسي تبدل في الحرب الحالية، إذ تنتقل إسرائيل من إطار الحروب التكتيكية التي شنتها على غزة في السابق، إلى إطار الحرب الاستراتيجية بهدف خلق واقع أمني جديد في غزة. فبالعودة إلى إيقاعات تشكل الحروب الإسرائيلية، كانت قراءة حماس لتلك الحروب مختزلة إياها في أبعاد موضعية محدودة العواقب لا تنفك عن التكرار داخل منطق اللعبة المتواضع عليها حيث لا تغيير في الواقع تنتهي دوماً بصورة نصر. هذه الوتيرة في حلقات الحروب من خلالها كرست إسرائيل ذهنية خاصة عند حماس: لا حرب طويلة، لا اسقاط للنظام، لا تغيير للواقع. الأمر الذي شكل سياقًا تاريخيًا موضوعيًا لاستدراج حماس إلى السابع من أكتوبر، عندما صدقت بأن الضفدع قادرٌ على ابتلاع الفيل. 

وفي أثناء العملية العسكرية الكبرى على غزة، شكل الإعلام الصور الذهنية عن ميدان القتال، حيث يقدم لنا صورة عن حماس بوصفها فعالية تستحوذ على قوة إطلاق نار كافية لتمكنها من إعادة التشكيل. 

فبالرغم من عدم التماثل والتساوي في القوة بين طرفي المواجهة، إلا أن المشهد الإعلامي يقدم حماس بأنها قادرة على حرمان إسرائيل من تحقيق نصرٍ حاسم. بيد أن هذه الصورة تتكلم عن الواقع بما ليس فيه، وهنا يثور السؤال: لماذا تراهن حماس في مطالبها لإنهاء الحرب على معطيات لا تأتي من الميدان؟! وهذا ما يشير إلى عدم كفاية الميدان. 

المقاومة والسكان :

وعليه نطرح السؤال التالي: إلى أي حد الاستحواذ على قوة نار كافية لضمان إعادة التشكيل؟       

من واقع الملاحظة المشاركة، أي من ملاحظة مشاركتنا حياة الناس تحت آلة الضغط العسكري الإسرائيلي، ينكشف ضعف الالتحام الشعبي المؤازر لمقاومة حماس. فلقد تفاقمت المشاعر السلبية تجاه قيادات الحركة، وأصبح غالبية سكان كالقطاع، يشتمون الحركة وقائدها بأقذع الألفاظ. 

والمعنى أن الحرب لم تصنع تماسكًا اجتماعيًا سياسيًا عبر رابطة معنوية تربط الاجتماعي بالسياسي تؤمن طاقة استراتيجية لفعالية المقاومة في محنتها اليوم. ههنا ينكشف فعليًا تراثها السياسي من جهة العلاقة بالسكان. حيث تركوا مكشوفين فوق الأرض تتحمل مسؤوليتهم الأمم المتحدة، كما قال القيادي موسى أبو مرزوق، لتعيش قيادتها تحت الأرض في عزلة كلية عن السكان. ومن هنا نرى أن الأنفاق تعبير رمزي عن انعزال المقاومة عن السكان. 

في الواقع إن ترك السكان دون قيادات ميدانية توجههم وتشاركهم المحنة قصة أخرى مؤلمة عن فشل القوى الوطنية في إدارة المسألة الاجتماعية في الحرب لا مجال ههنا لسردها.   

لقد فرضت حماس في عام 2007 سيطرتها على قطاع غزة، وأصبحت مسؤولة عن تدبير المسألة الاجتماعية السياسية في غزة. وفي ضوء الملاحظة الآنفة عن انعدام الالتحام الشعبي المؤازر لحماس في حربها الحالية يثار السؤال: لماذا فشلت حماس في بلورة صيغة تؤمن آلية ثابتة قادرة على إعادة الالتحام السياسي والتماسك الاجتماعي يمكنها من إعادة التشكيل؟ إن ذلك يكشف لنا أن كلام المقاومة عن الجبهة الداخلية ليس إلا وهمًا. 

إن الفكرة التي قامت عليها حماس أن قوةً عسكريةً لجيشٍ متقدم لا تستطيع حسم المواجهة مع قوة أدنى، وأن قوة ضعيفة قادرة على تعطيل تحقيق القوى الأعلى لأهدافها الاستراتيجية، ليست فكرة وهمية فقط وإنما تتخطى أيضًا المس الشديد بالسكان والبنى التحتية والعقاب الجماعي وتقويض القدرة على الصمود عند دخول مواجهة لا يوجد بها تماثل وتساوٍ في القوة أي هوة استراتيجية كبيرة جلبت الضرر الأكبر على غزة عندما أدخلت غزة في معركة أكبر من قدرتها على احتمالها. ونحن نرى أن ثمة درساً تقدمه غزة حول هذا النوع من المواجهات. 

المقاومة والتدهور الاستراتيجي :

يحاول الإعلام العسكرية أن يعوض الفجوة الاستراتيجية في القوة عبر صناعة مشاهد إعلامية لمجريات المعركة. يعرض علينا الإعلام مشاهد قنص وتدمير آليات عسكرية وتلغيم لبيوت يتحصن بها جنود وكمائن واستدراج. سأتجاوز الفبركات، وسأفترض جدلًا بأنها تعبر عن مشاهد صادقة. بيد أنها لا تقول لنا القصة كاملة، إنها تعرض علينا صورة مهشمة لميدان القتال كما سأبين. نعم يتعرض الجيش لضربات من المقاومة تكبده خسائر في الأرواح والمعدات. غير أن ما لاحظنا أن الكمي في قتال حماس لا يتحول إلى نوعي، وأن مكاسبها التكتيكية لا تترجم إلى مكاسب استراتيجية.  وأن هذا الوضع القتالي يجلب تبعات كارثية على مقاتلي حماس، ويكشف لنا أن الكلام عن استمرار حماس وقدرتها على إعادة التشكيل من جهة وأفعالها في ميدان القتال من جهة أخرى هما قصتان منفردتان. إن التدهور الاستراتيجي هو القانون الذي يحكم أفعال المقاومة، وهو التطور الطبيعي لمواجهات غير طبيعية. 

الوضع كالتالي: إن دخول مقاتلي حماس في وضع قتالي تترجم فيه الإنجازات الموضعية إلى تدهور استراتيجي هو أمر حتمي لا تستطيع الانفكاك منه. هذه هي النتيجة عندما يتم استخدام الفجوة الاستراتيجية في مواجهة كبرى من قبل القوة الأدنى. فـانتصارات المقاومة الموضعية وانجازاتها العسكرية الميدانية، تتدهور إلى فشل استراتيجي. في المقابل إن خسائر الجيش الإسرائيلي الموضعية ترتقي إلى إنجاز استراتيجي لأنه قادر على تعويض خسائره عبر تحويلها إلى مكاسب بحكم الفارق في قوة النيران. هذا هو أفق المواجهة. وليس بقدور حماس تعطيل هذا التدهور الاستراتيجي لمسار قتالها اللهم إلا إذا توقفت تمامًا عن القتال. 

هذا بالضبط مأزق حماس في القتال الجاري في غزة. إن كل جهوزية حماس السابقة وإعدادها لهذه المعركة من حيث وسائل القتال والرهانات قد ضُربت في مقتل، فقد واجهت هجومًا طويلاً وواسعًا وشاملًا، وهذا لم يكن واردًا في حسابها الذي كان قائمًا على عكس ذلك تامًا. 

والنتيجة المترتبة على هذا التدهور الاستراتيجي، أن حماس لا تستطيع إدارة معركة طويلة عبر الدخول في حرب استنزاف كما تراهن. فالجيش يدخل ويخرج على نحو متواتر، لأنه ملزم بمعالجة مصادر إطلاق النار، وتدمير الوسائل القتالية ومنصات الإطلاق والكشف عن الانفاق الاستراتيجية ومراكز التحكم وغرف العمليات ومقرات القادة وإحباط الخصم وتعطيل التواصل، وحرمان المقاومة من إعادة التنظيم، كل ذلك عبر تواتر الدخول والخروج وتكرار الهجوم من خلال معلومات استخباراتية في كل مره تمكنه أكثر ليعمق عملياته في القطاع.

وهذا الإيقاع القتالي لا يعد فشلًا إسرائيليًا كما يفسره إعلام المقاومة بل إنه تكتيك حرب تمليه ظروف الحروب التكتيكية مع قوة غير متكافئة، فوتيرة الجيش تعتمد على الأسس التكتيكية وهي منطقية جدًا من خلالها ليس فحسب يتم استدراج مقاتلي حماس إلى المعركة بل وكذلك إخراجهم من مخابئهم ليصبحوا مكشوفين أكثر.  وكذلك ينجز مهام أخرى مثل جس النبض، اختبار القوة، تقدير البنية التحتية للخصم، التعلم من الميدان على تكتيكات الخصم، اعتقال عناصر من المقاومة. فهو في الإغارة التكتيكية لا يعمل بشكل جذري وكامل ولكنه يعمل بشكل تدريجي متواصل.

من هذه الحيثية، في كل مواجهة، تنكشف المقاومة أكثر ونشاطها العسكري وعناصرها، وأماكن القتال والوسائل القتالية، وهكذا حتى تصل إلى العجز الكلي حيث لا يمكنها تعويض التناقص المستمر في الموارد والامدادات وتجنيد العناصر والتمويل والتعبئة العامة، والتواصل بين العناصر والقيادة والانضباط التنظيمي، وتراجع القدرة العسكرية العملياتية، ناهيك عن تفاقم التوتر بين السكان والمقاومة. ومن هنا فإن قتال حماس قتالٌ تراجعي ليس فيه تقدم. فلقد أدخلت نفسها في نموذج قتالي يعد النقيض التام لنموذج المقاومة تحت الاحتلال الذي يقوم بالأساس على الصمود. 

الوضع كالتالي: ما دمت تقاتل فإن قتالك يكشفك أمام عدوك. هذه بديهة. وفي وضع مثل قطاع غزة الساقط عسكريًا، حين يصبح ميدان معارك مع قوى غير متكافئة، تصبح المأساة أعمق. 

وعلي سبيل المثال لنأخذ القتال من الأنفاق. فبالرغم من كل الأنفاق التي شيدتها المقاومة، والتي تفترض بالطبع التخفي عن حدقة العدو، غير أن ذلك غير ممكن في القتال إلا بقدر، ويتوقف هذا القدر على طبيعة المعركة من حيث السعة والشمول. والمفارقة ههنا بين ما تفترضه طبيعة القتال من انكشاف وبين وسائل الأنفاق التي تفترض الاحتجاب عن عين العدو، حيث تنكشف محدودية جدواها. فالميدان يفرض على مقاتلي حماس القتال وجهًا لوجه، بينما استراتيجيتها مبنية على القتال عبر الأنفاق. حيث تفترض الأنفاق أسلوبًا قتاليًا خاصًا قائمًا على الموجهات غير المباشرة، أي القتال من وراء ظهر العدو. وهذا التكتيك، أي القتال من وراء حجاب الأنفاق، قائم على فرضيات ثبت عدم صلاحيتها وهي: استحالة الدخول البري، استحالة الحرب الطويلة، استحالة الحرب الواسعة. بينما ما راهنت عليه حماس وبنت عليه استراتيجيتها القتالية حرب موضعية، ومؤقتة، ومحدودة. الأمر الذي شكل ضربة قاسمة لطريقتها في القتال التي لا تستجيب لطريقة الحرب التي فرضتها إسرائيل على القطاع.    

وعليه، ليس بمقدور حماس تفادي التدهور الاستراتيجي، والعطب البنيوي في العجز عن تحويل المكسب التكتيكي إلى مكسب استراتيجي. فالمشكلة ليس في أن الجيش كلي القدرة بل في كيفية استعمال القوة في المواجهة عندما تجعل حماس المقاومة مواجهة استراتيجية مع قوى أعلى، حيث يغيب الصبر والانتظار والالتحام بين الاجتماعي والسياسي. 

إن أفضل نصيحيه يمكن أن نقولها لحماس هي أن تتوقف عن القتال فورًا إن أرادت أن توقف هذا التدهور وتجنيب مقاتليها الهلاك المحتوم. فقتالها أمر في كلفة ولا منفعة فيه بل خسارة، وصورة النهاية أصبحت معروفة.   

في هذا السياق، إن العلاقة بين القوة الأدنى والقوة الأعلى لا تنضبط بالفضائل فلا يوجد أي نوع من الفضائل يؤطر هذه العلاقة في الفجوة الاستراتيجية، إنه المحو حيث القوة ههنا ضرب من التجريد الخالص. فرهان حماس على تغيرات من خارج الميدان كالبيئة الداخلية في إسرائيل، أو الرأي العام العالمي لتلطيف العقاب الواقع عليها أو العفو عنها وبالتالي تستأنف الحكم من جديد ليس إلا سرابًا يحسبه الظمآن ماء.  

يكمن الاختلال في طبيعة هذه العلاقة التي شيدت عليها حماس قصتها الخاصة في الصعود حتى وصلت إلى ما وصلت إليه لنوع من القتال يستنفذ ذاتها عبر وسائل قتالية توهمت بأنها تساعدها على المناورة وإعادة التشكيل وإذ بها في تدهور استراتيجي أشبه بالانتحار الذاتي.  

 

 

مركز الناطور للدراسات والأبحاث  Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى