أقلام وأراءشؤون فلسطينية

عياد البطنيجي: الرهانات الخاسرة: لماذا لا تستطيع حماس ردع إسرائيل؟

عياد البطنيجي 23-7-2025: الرهانات الخاسرة: لماذا لا تستطيع حماس ردع إسرائيل؟

تُظهر الحقائق الميدانية أن خطاب قيادة حماس، ممثلاً بتصريحات “أبو عبيدة”، ليس سوى شعارات استهلاكية تفتقر إلى الواقعية. هذا الخطاب البلاغي يهدف لإخفاء عجز عسكري واضح وتداعيات كارثية لخيارات الحركة، خاصة بعد عامين من الحرب على غزة. رغم المعاناة الإنسانية الفادحة، تصر حماس على موقفها، متجاهلةً الواقع الموضوعي وما هو ممكن أو مستحيل، ومخلطةً بين المقاومة الوهمية والحقيقية.

إن القدرة العسكرية لحماس، المعتمدة على العبوات الناسفة، الخلايا الهجومية، والقذائف المضادة للدروع، تفتقر للقدرة الحقيقية على ردع الجيش الإسرائيلي أو إجباره على الانسحاب. بخلاف الخطابات الحماسية التي تهدف لرفع المعنويات، تشير المعطيات الميدانية إلى عجز واضح في الجهاز العسكري لحماس عن إحداث أي تأثير استراتيجي ملموس. هذه الأدوات لا تملك الثقل السياسي اللازم لتحويلها لأوراق تفاوضية ضاغطة تجبر إسرائيل على التراجع أو إعادة تقييم أهدافها. ببساطة، لا تمكن هذه الأدوات الحركة من ممارسة ضغط مؤثر على طاولة المفاوضات.

الاعتماد على هذه الأدوات القتالية لا يبدو جزءًا من عملية سياسية عسكرية فعالة، بل رهانات مبنية على أوهام. فالصواريخ التي تُطلق، على سبيل المثال، لا تملك ثقلاً استراتيجيًا حقيقيًا على المدى الطويل. هذا التعويض المستمر بالدعاية والخطاب العاطفي بدلاً من مواجهة الواقع يعكس عمق المأزق الذي وصلت إليه هذه الفصائل في مواجهاتها قوات الجيش الإسرائيلي في غزة.

قانون ميدان القتال الإسرائيلي والمفارقة الاستراتيجية

تُظهر طبيعة النزاع الحالي كيف تؤثر القوى الفاعلة، الجيش الإسرائيلي والفصائل الفلسطينية، بشكل مباشر على المدنيين. فـ”قانون ميدان القتال” الذي تتبعه إسرائيل يوسع مفهوم المقاتل ليشمل أي شخص في منطقة القتال، مما يبرر التدمير الشامل ويعرض حياة المدنيين لخطر جسيم. فهم هذه العقلية العسكرية ضروري للتعامل معها بواقعية، لتفادي أثرها المدمر على السكان الأبرياء.

تثار تساؤلات جوهرية حول الخيارات المتاحة أمام حماس والفلسطينيين في مواجهة قوة عسكرية متفوقة. يجب استكشاف السبل التي يمكن من خلالها التأثير على الخصم، وكيف يمكن لرد فعل المقاومة أن يؤدي إلى تصعيد العنف أو خفضه. غياب الخيال الاستراتيجي الذي يوازن بين القدرات والأهداف يمكن أن يؤدي إلى مجازر وتداعيات وخيمة، يتحمل المدنيون العبء الأكبر منها.

يُبرز هذا التباين الصارخ بين الأفعال العسكرية للمقاومة في غزة (الصواريخ، الكمائن، العبوات) وبين الغايات الاستراتيجية الواضحة لحماس (انسحاب الجيش الإسرائيلي، الاحتفاظ بالحكم). هذا يكشف عن انقطاع في العلاقة الاستراتيجية المتوازنة بين الأفعال العسكرية والأهداف المرجوة، مما يؤدي إلى عجز متدرج وشلل في تدبير التكتيك القتالي للمقاومة. النتيجة هي غياب الكفاءة والفعالية لدى المقاومة في تحقيق أهدافها. كل خيار تتخذه الحركة يزيد من عجزها وضعفها. في المقابل، يتبع الجيش الإسرائيلي استراتيجية متسلسلة ومدروسة، تعمل بأقصى قوة ضمن خطة تدريجية ولكنها فعالة. هذا يخلق انعدام توازن جذري بين الفعل ورد الفعل، يدفع المقاومة نحو الشلل التام في تدبيرها التكتيكي ويضع عقبات هائلة أمام استمراريتها في الميدان.

هذه الوضعية تُبقي المقاومة في حالة فقدان توازن تدريجي، وتجعل ترجمة المعركة إلى نتائج سياسية مقبولة هدفاً بعيد المنال. وهذا يتعارض بشكل صارخ مع التدبير الاستراتيجي الفعال الذي يقوم على تحقيق التوازن بين الأبعاد العسكرية والسياسية للقتال. حماس كان يجب أن تتجنب هذا النموذج الاستراتيجي الذي يعتمد على “روحية الجيوش” في استخدام القوة العسكرية لتحقيق أهداف سياسية، بينما هي حركة مقاومة غير نظامية. المقاومة الحقيقية يجب أن تكون متجردة من أغراض الحكم كشرط لخروجها من حقل الخصم، بل وحتى تشبثها بمطالب انسحاب الجيش من قطاع غزة لا يبدو مبررًا في السياق الفلسطيني الاستعماري الأوسع، الذي يتطلب رؤية أوسع وأكثر شمولية. دخول طرفين غير متكافئين في مواجهة استراتيجية يدفع المقاومة إلى مشاكل تزداد بوتيرة مطردة بسبب اختلال توازن القوى.

تحول تكتيكي وتداعيات كارثية

واجهت فصائل المقاومة مأزقًا استراتيجيًا حادًا عندما انتقلت العملية العسكرية الإسرائيلية من تكتيك “الضغط” (الكر والفر وعدم المرابطة) إلى تكتيك “الحسم والسيطرة الكاملة” على مساحات واسعة من قطاع غزة. هذا التحول الجذري غيّر التكتيك العسكري وأساليب القتال من “صفوف متحركة” تعتمد على المناورة الحركية، إلى “القتال بالمرابطة في مراكز حصينة” تعتمد على الرسوخ في المكان، بغرض التطهير والتدمير وترسيخ السيطرة التامة على المجال المكاني.

بالنظر إلى الواقع الحالي، هناك تداعيات سلبية خطيرة على غزة من الجانب الإسرائيلي، وتتوقف حدة هذه التداعيات على طريقة استجابة حماس. خيارات إسرائيل المفتوحة للضغط تشمل توسيع المنطقة العازلة (بإعادة الانتشار وتوسيع “غلاف غزة” ليمتد داخل القطاع)، والتحول من كارثة إنسانية إلى تدمير شامل للمناطق المتبقية، وإزاحة الكتلة السكانية من الشمال إلى الجنوب مع تدمير الشمال بالكامل، واحتلال كامل القطاع، وحشر السكان في مناطق ضيقة، وتقطيع أوصال القطاع، والتفكير في التهجير أو تخفيف عدد سكان القطاع بشكل كبير. كل ذلك بات أفقاً ممكناً تهدد به إسرائيل، ناهيك عن التضييق المستمر في المساعدات والغذاء، والآثار السلبية المدمرة على التعليم والطبابة، وهدر الوقت والمماطلة في أي حلول إنسانية أو سياسية.

رفح، الحلقة المكتملة وتتويج المأزق

رفح تمثل تتويجًا للتكتيك الإسرائيلي ونموذجًا مكتملاً لانتقالها من “الضغط” إلى “الحسم والسيطرة الكاملة”. ففي رفح، تتجلى بوضوح استراتيجية “القتال بالمرابطة في مراكز حصينة” بغرض التطهير والتدمير وترسيخ السيطرة التامة على المكان.

هذا التركيز على رفح يعكس ذروة العجز العسكري لحماس. فمع كل تقدم إسرائيلي، يزداد فقدان حماس لتوازنها التكتيكي وتتقلص قدرتها على ترجمة أي فعل عسكري إلى نتائج سياسية مقبولة. ما يحدث في رفح هو تجسيد للمأزق الاستراتيجي الذي وصلت إليه الحركة، حيث أصبحت أدواتها الميدانية عاجزة تمامًا عن ردع الجيش الإسرائيلي أو تغيير مسار عملياته العسكرية.

تُعدّ هدم المباني استراتيجية إسرائيلية محورية في غزة، تهدف إلى حرمان الخصم من ميزة السيطرة الميدانية وحماية الجنود. يتجلى هذا التكتيك بوضوح في الجهود المستمرة لإنشاء منطقة عازلة داخل القطاع على طول الحدود (مما يستلزم هدم آلاف المنازل)، وتأسيس مناطق آمنة على المحاور الرئيسية لتقطيع أوصال القطاع. هذه العمليات تهدف إلى تكوين مساحات دفاعية عبر التدمير الواسع النطاق. هذه الاستراتيجية العسكرية تُعد استجابة حاسمة لطريقة عمل المقاومة التي تحول المباني إلى ساحات قتال؛ لذا، يصبح هدم المباني شرطًا أساسيًا لـ”تطهير” المناطق وتأمينها.

كما أن المشهد في رفح يبرز التداعيات الكارثية لخيارات حماس على المدنيين. فعمليات “التطهير والتدمير”، بالإضافة إلى حشر السكان في مناطق ضيقة وتضييق تدفق المساعدات الإنسانية (بوصفها سلعة أمنية)، كلها عوامل تتفاقم. ونموذج رفح يتكرر في مناطق القطاع كافة، مما يؤدي إلى مستويات غير مسبوقة من المعاناة الإنسانية، ودفع الوضع إلى أقصى حدود الخطر.

في النهاية، تمثل رفح الاختبار الأخير لمدى تمسك حماس بـ”رهانات مبنية على أوهام”، ومدى استعدادها لتقييم الواقع الموضوعي. إذا كانت المقاومة الحقيقية يجب أن تكون متجردة من أغراض الحكم وتعمل لخير الشعب، فإن المشهد في رفح يدعو بشكل ملح إلى التفكير في الانسحاب الذكي من المشهد السياسي والعسكري، لإلقاء العبء مباشرة على الاحتلال، وسحب الذرائع التي تسمح بتفاقم هذه الكارثة الإنسانية والعسكرية وتمددها.

 الحل الاستراتيجي المقترح

من هذا المنطلق، لا توجد طريقة لردع الجيش الإسرائيلي بشكل فعال إلا بانسحاب حماس من خلال فك الارتباط الاستراتيجي مع قطاع غزة عبر الانسحاب الذكي من المشهد السياسي والعسكري في قطاع غزة. بهذه الطريقة، تُلقي حماس العبء الكامل على الاحتلال، وتسحب الذرائع التي يتذرع بها، وتجعل المواجهة مباشرة بين السكان المدنيين والاحتلال، دون واسطة أو عازل. هذا التحول في النهج الاستراتيجي يمكن أن يمثل “قلب الطاولة” في غزة، ويفتح مسارات جديدة لمستقبل القطاع بعيدًا عن دوامة العنف والعجز الحالي. هذا النهج النوعي يأتي بعد عجز حماس عن ردع الاحتلال في الميدان؛ فيبقى الانسحاب الذكي الخيار الممكن لردع إسرائيل، ويخلق الظروف لتغيير منطق الاشتباك، ويقدم منهجًا مبتكرًا يعالج المشكلات الاستراتيجية لدى حماس التي لا يمكن حلها بالطرق المعتادة أو المنطق السائد وبأدواتها القتالية. فالمفارقة الاستراتيجية لدى الفصائل الفلسطينية المقاتلة هي أن أهدافها أو الوسائل المستخدمة لتحقيقها تبدو متناقضة ظاهريًا فلم تردع قوات العدو ولا يبدو أن العودة إلى المعادلة السابقة على هجوم السابع من أكتوبر ممكنة. لكنها في الواقع، فك الارتباط الاستراتيجي، بات ضروريًا لتحقيق النجاح في التغيير الاستراتيجي، عبر التضحية بمكاسب وهمية (غزة بوصفها كيانًا سياسيًا قانونيًا خاصًا مستقلاً عن السياق السياسي الأوسع) لتحقيق هدف استراتيجي أكبر (العودة إلى العلاقة المباشرة بين السكان والاحتلال، ترسيخ البقاء، وتعزيز الصمود).

الحلول المقترحة لهذه المعضلة ستكون محور تحليلنا في مقالاتنا القادمة.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى