أقلام وأراء

عياد البطنيجي: الحرب الإقليمية وانكشاف حدود القوى الصاعدة

عياد البطنيجي 1-10-2024: الحرب الإقليمية وانكشاف حدود القوى الصاعدة

في خلفية الحرب الإقليمية الشرق أوسطية، يكمن القرار الأمريكي الذي يقضي بإعادة تشكيل الوضع في الشرق الأوسط، وتغيير خارطة النفوذ فيه، وفي الواجهة تنفذ إسرائيل القرار بواسطة الحرب كأداة مركزية في إعادة التشكيل هذه.

 لا غرو أن الحرب الإقليمية الدائرة في هذه الغضون تكشف عن إمكانات القوى الصاعدة وحدودها، تلك المناهضة لهيمنة الولايات المتحدة. فهي حرب متدرجة لا تقتصر نتائجها على مسرح العمليات الحربية المتمثل في غزة ولبنان بل مرشحة لمزيد من التوسع في اليمن وسوريا، وأغلب الظن أنها ستطاول إيران فالأمر متوقف على كيفية استجابة الأخيرة لضغوط نسق الحرب المتدرجة، فإيران موجودة في قلب الصراع بصورة غير مباشرة وستدخل إليه بشكل علني ما لم تستجب الولايات المتحدة لمطالبها.

فضلًا عن ذلك، لا تكشف هذه الحرب عن ضعف قوى المقاومة فحسب، من جهة عدم كفاءتها في حروب المقاومة التي أعدت لها نفسها، وبكلامها المستمر عن الجهوزية والاستعداد وتوازن الرعب إلى آخر الشعارات الرنانة وقائمة الكلام الوهمي، وفي الميدان  أهينت كرمتها واهتزت ثقة الناس في جدوى نموذجها، نقول تكشف هذه الحرب كذلك عن الوزن الاستراتيجي لما يسمى بالقوى التعديلية في النظام  الدولي من حيث كونها أقل كفاءة في شن الحرب أو الحرب المضادة، أو الاستعداد لها، وبالتالي هي أقل قدرة من الولايات المتحدة في تطوير دورها الدولي وفي المنافسة الجيوسياسية – العسكرية. وههنا جدير بالإشارة أن الولايات المتحدة لم تضطر في معاركها حتى اللحظة إلى استعمال احتياطها الاستراتيجي الكامن في الغرب الأوروبي، فلا تزال تتسيد النظام الدولي وتخوض غمار المعارك تقريبًا بمفردها.

  انطلاقًا من هذه الحيثية، يمكن القول إن الغرب (الولايات المتحدة وأوروبا) في موقفه من التشكيلات الجيوسياسية غير الأوروبية يتصرف في أغلب الأحيان كقوة جيوسياسية واحدة. وهذا ما سيكون من الملامح المستقبلية المميزة التي سوف تطيل أمد الإمبراطورية الأمريكية، وستحدد طبيعة المواجهات الجيوسياسية بين الصين أو روسيا والغرب الأوروبي كما تبدى ذلك بوضوح على وقع الحرب الروسية الأوكرانية، وكذلك الأمر مع الحرب الإقليمية الراهنة.

يكشف ذلك عن حدود الصراعات في النظام الدولي الراهن بين قوى الوضع الراهن والقوى الساعية إلى تغيير الوضع الدولي، فلا تملك القوى الصاعدة حتى الآن القدرة على صياغة البديل، في المقابل ما تزال الولايات المتحدة تمثل العامل الحاسم.

ونتيجة لذلك، يمكن القول إن النظام الدولي بزعامة الولايات المتحدة لا يشهد في هذه الغضون أزمة وجودية تقضي بتحوله كما تفترض نظرية تحول القوة من الغرب إلى الشرق مما يلبي مطلب تبلور نظام دولي جديد يقوم على التعددية القطبية، وهي للشعار أقرب منها إلى التحليل العلمي.

في الواقع، أن مدى قدرة نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية الذي أسهمت الولايات المتحدة في بنائه، على الاستمرار كهيكل أساس لاستراتيجية الولايات المتحدة لا يواجه أزمة لجهة مدى قدرته على امتصاص الضغوط الجيوساسية الصاعدة التي تهدد السيطرة الأطلسية المفترضة بزعامة الولايات المتحدة بوصفها قوة وضع راهن. كما يمكن الاستنتاج أيضًا أن قدرة القوى الصاعدة كالصين وروسيا، على تفكيك الوحدة الاستراتيجية لضفتي الأطلسي، أوروبا والولايات المتحدة، كشرط لإمكان تحويلهما إلى قوة عظمى ترمي إلى إعادة صوغ النظام الدولي هي غير ممكنة حاليًا.

هذه الخلفية النظرية ضرورية لقراءة الوضع السياسي للحرب الإقليمية واستشراف مآلاها، والتي تفسر أيضًا غياب رؤى أخرى قادرة على فرض وساطة لحل الصراعات، وبالتالي غياب القدرة على صياغة البدائل وخلق الأفكار الجديدة القائمة على نقد الممارسات السياسية للولايات المتحدة التي تحتاج إلى موارد ومفاهيم غير متاحة لدى ما يسمى بالقوى الصاعدة. وبالتالي استمرار غياب حراك دبلوماسي مؤثر في هذه الحرب، اللهم سوى دعوات خجولة إلى وقف إطلاق النار.

في الميدان، فرضت الولايات المتحدة طوقًا بحريًا وجويًا، وحشدت قواتها في المنطقة لفرض رؤيتها الجديدة للشرق الأوسط. فهي حرب لإعادة تشكيل خارطة النفوذ ولتدشين مرحلة جديدة تقطع مع الترتيبات القديمة. فلا يمكن تصديق بأن هذا الحشد الأمريكي الكبير هو لإعادة المستوطنين اليهود في الشمال إلى منازلهم أو لفصل ما يحدث في لبنان عما يحدث في غزة.

في المقابل، لا نرى موقفًا دوليًا مكافئًا ذات قدرة تنافسية بإمكانه أن ينال من هذا المخطط، كما لم تتدخل أي من القوى الصاعدة، مثل روسيا التي لا تزال متورطة في حربها مع أوكرانيا ويكتنفها العجز عن الخروج منها، وحتى الصين التي تواجه معوقات بنيوية استراتيجية أمام تحولها إلى قوة مركزية في الباسيفيك كشرط لتحولها إلى قطب دولي مكافئ، وكلا القوتين يجمعهما التصور النظري الأوراسي كنظرية بديلة في العلاقات الدولية، وهما أيضًا حليفتا إيران موضوع الحرب الإقليمية الراهنة. وهي قوى لم تطرح صياغة أخرى للأمن الإقليمي تتحدى البدائل الأمنية الأمريكية.

يمكننا أن نفترض بأن قوة دولية منفردة أو تحالفًا دوليًا بإمكانه معاكسة الخطة الأمريكية أو رعاية حوار معها يفضي إلى تعديلها وفرض نتائج تقوم على تسوية متوازنة بدلا من الرؤية الأحادية، لكانت وطأة الحرب أخف حدة على الناس ولربما شهدنا حلولًا بصورة أسرع مما هو عليه الحال، وهذا ما يفسر أن الحسم في جميع الجبهات لا يلوح في الأفق، ويفسر أيضًا تعمد إسرائيل إطالة أمد الحرب في غزة لأجل استعمالها في الجبهات الأخرى.

أضف إلى ذلك، أن التكتيك الإسرائيلي في التدرج بوتيرة متصاعدة في تحقيق الهدف العسكري، أو الانتقال من الحرب المحدودة إلى الحرب الواسعة، فضلًا عن يدها الطولى التي تضرب في جميع الجهات، لا ينفك عن الاستجابة الدولية.

تقوم الأهداف التكتيكية للحرب الراهنة على القضاء على حكم حماس سياسيًا وعسكريًا، وبالتالي لن تكون جزء من أي تسوية قادمة، فضلًا عن إبعاد حزب الله عن الحدود مع إسرائيل إلى ما وراء الليطاني، الذي يمس بالضرورة بإمكانية بقاء حزب الله كميليشيا داخل لبنان تتصارع على النفوذ، وتكون قادرة على إنشاء مربعات أمنية تفرض سيطرتها على الشارع اللبناني كما كان يجري في السابق؛ فضلًا عن الضغط المتدرج على حزب الله للفصل بين ما يحدث في الساحة اللبنانية وبين مواصلة الحرب ضد حماس في غزة، وتعميق الضرر بقدرات الحزب وإلحاق الضرر بمنظوماته الاستراتيجية، وكذلك الضغط على الميليشيات الإيرانية في اليمن عبر تدمير المنشآت الاستراتيجية، وتطال التكتيكات أيضا أذرع إيران في سوريا.

وذلك كله عبر أدوات الضرب بوتيرة متصاعدة في تحقيق الهدف العسكري، وعبر الاغتيالات السياسية، وعبر المفاجآت التي تحدث التشويش والإرباك، وضرب الثقة في منظومة التواصل والاتصال، وبالتالي شل الحركة، والمس بتوازن السيطرة والتحكم وبالتوازن المعنوي، والتأثير في مركز التفكير، وزيادة الشكوك بين القيادة والعناصر والمجتمع. وأدى ذلك بالطبع إلى زيادة الشكوك من قبل من هم حول هذه التنظيمات من السكان الذين راهنوا عليها في الدفاع عن البلاد وإذ هي عاجزة عن حماية نفسها.

وأما الأهداف استراتيجية فتكمن في إعادة تشكيل خارطة النفوذ بما يعني إخراج أذرع إيران في المنطقة من معادلة الاستقرار المتعلقة بإسرائيل. وبالتالي تغيير موازين القوى والوضع في الشرق الأوسط، بما يتخطى نظرية التخادم الأمريكي الإيراني بعد أن استنفذ الغرض منها في احتلال العراق والحيلولة دون سقوط النظام السوري، وتفكيك اليمن وخلق موضع قدم لها، ودعم حماس في غزة للتأثير في سياسات الصراع العربي الإسرائيلي. 

في الواقع تأتي هذه الحرب بعد أن أصبح هذا التخادم يمس بمعادلة الاستقرار الإقليمي، نتيجة السياسة الإيرانية التي عملت طوال عقود على تفكيك الدول من الداخل عبر إنشاء ميليشيات مسلحة تكتسب الشرعية من نضالها مع الفلسطينيين وتوظيف ذلك في الصراع الداخلي على الحكم وعلى جوهر وجود السيادة الوطنية، كما هو الحال في لبنان واليمن وجزئيًا في العراق وسوريا. وفي الفترة الأخيرة توسعت شهية إيران لتمد نفوذها إلى الأردن، كما إلى السودان والبحرين والسعودية. وتمارس هذا النفوذ عبر تقديم السلاح المتطور إلى هذه الميليشيات لتصبح قوة عسكرية ذات قدرات دولاتية تتشبه بالجيوش النظامية التي تملك صواريخ تصل إلى 2000 كيلومتر كالتي مع الحوثيين وترسانة سلاح كالتي يملكها حزب الله. وهذا بدوره يثير إشكاليات لا تتعلق بإسرائيل فحسب بل أيضاً بالأمن الإقليمي والضبط الدولي واستقرار المنطقة، بصرف النظر عن موقفنا من ميزان القوى القائم وأعني انفراد الولايات المتحدة بالسيادة العالمية.

في الختام، لا يوجد ما يمنع تدحرج الحرب، وتوسعها فالتسويات متعذرة، ولا توجد وساطة دولية قادرة على التدخل وفرض معادلات أخرى، وقوى دولية عاجزة عن مقابلة أهداف الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بما يعاكسها ويبطل عملها، ولو كانت هذه القوة متوفرة لكانت النتائج مختلفة.

وعليه، ستبقى المطاردات والملاحقات الإسرائيلية بدعم أمريكي مطلق، فضلًا عن خلق البدائل وأوراق الضغط على الخصوم، واستخدام القوة والحيل والمفاجآت وامتلاك المبادرة واستعمال الحركية عبر الهجوم على الطرف الأضعف للتأثير في الطرف الأقوى، إلى أن تحين الظروف وتنضج شروط تسوية ما، والتي بالطبع تحتاج إلى فترة زمنية ضرورية. لكن الثابت أنه لا يوجد حل سحري، وأن الحل القادم سيكون وفقًا للضوابط الدولية والأمن الإقليمي التي يمكن أن تتوفر في ميزان القوى القائم الذي ما يزال يعمل وفقًا لأهداف الولايات المتحدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى