أقلام وأراء

عمر حلمي الغول يكتب –  ثلاثية التاريخ والنهر والمقاومة

عمر حلمي الغول – 12/6/2021 

  توائم ثلاثة في الطبيعة والمجتمع والزمن تحكمها قوانين واليات عمل عامة، رغم الإفتراق الكبير والعميق بينها، إلا انها متداخلة ومترابطة ديالكتيكيا في منظومة الحياة الإنسانية. قد يستغرب الإنسان عند محاكاة العلاقة الجدلية بين التاريخ والنهر والمقاومة، ويثير سؤالا بسيطا وسريعا يتبادر لذهن القارىء، ما هي العلاقة؟ وكيف يمكن الربط بينهم؟

كل من النهر (يمثل احد عناوين الطبيعة) والتاريخ (الزمن) والمقاومة (الفعل الإجتماعي) تحكمها قوانين واحدة من حيث الآتي: اولا التاريخ أمس ليس كما اليوم، ولن يكون هو ذاته غدا. لإن حركة التاريخ تسير للامام ولا تعود للخلف ابدا. وتحمل في ثناياها تطورات هائلة على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية، وحتى في تأثيرها على مكونات الطبيعة بدلالاتها السلبية والإيجابية.

والنهر الآن، لا يكون هو ذاته بعد لحظات، لإن مياهة تتدفق وتسير بشكل ديناميكي، فالنهر الذي تسبح فيه اليوم، لا يكون ذات النهر الذي تسبح فيه بعد وقت قصير، أو غدا، مع انه هو ذات النهر من حيث المجرى المائي والجغرافي، ومن حيث نقطة المنبع او المنشأ، ونقطة المصب، بيد انه لا يتوقف عن الحركة والفعل، والماء ليست ذاتها، التي سبحت فيها. لإن النهر لو توقف فسيصبح بركة آسنة، ستضمحل وتجف بعد حين. ولهذا النهر في حركة دائمة ومتجددة.

ونفس الشيء في فعل المقاومة (الفعل الإجتماعي)، بتعبير اوضح مقاومة اي شعب من الشعوب تبدأ وتنطلق نتيجة عوامل داخلية أو خارجية إستعمارية، وتتواصل صعودا وهبوطا ارتباطا بتطور الأحداث الذاتية والموضوعية، ولكنها تسير بخط بياني صاعد، حتى لو تراجعت في لحظة زمنية معينة، فإنها تعود إلى مسارها اللولبي الحلزوني في الصعود. لإن فعل المقاومة لا يجوز ان يتوقف في لحظة معينة، حتى لو منيت الثورة والمقاومة بهزيمة او ضربات موجعة من قبل الاعداء. كما ان المقاومة لا تتوقف مع الإنتصار على هذا العدو او ذاك إجتماعيا (طبقيا) او إستعماريا قوميا، لإن الإستقلال السياسي، أو انتصار ثورة إجتماعية في لحظة ما من التاريخ على اهمية ذلك، لا تعتبر نهاية الفعل الإجتماعي، ارتباطا ببرنامج  كل ثورة قومية او طبقية، فالانتصار ليس نهاية المهام، بل اول المهام الرئيسية، ولكنها ليست نهاية الفعل المقاوم الإجتماعي، بل هناك مهام قومية اخرى تتعلق ببرنامج التنمية المستدامة، وتحرير الإقتصاد القومي من السوق الإستعماري، فضلا عن الثورة الثقافية والتربوية والصحية والإجتماعية والبيئية، وبالتالي مسار الثورة لا يتوقف عند انتصار او هزيمة بعينها، ومن يعتقد ان الإستقلال السياسي هو النهاية، يكون مخطئا، لإن الشعوب حينئذ تكون انجزت الكفاح الأصغر، وبعد ذلك يبدأ الكفاح الأكبر، والذي لا ينتهي، لإن إستكمال النهوض بحاجات ومتطلبات الشعب هنا او هناك لا تنتهي، ولنا في تجارب الشعوب النامية أو العالم الثالث ومنها العالم العربي خير دليل على إنكفاء تلك الثورات عن برامجها، نتيجة افلاس القائمين على الثورات، وبالتالي الثورات لم تنتهِ، وإن خفت صوتها وضجيجها، لكن قعقعة قلوب الفقراء والمسحوقين من الجوع مازالت تحمل في ثناياها صوت الثورة، وتدعو قوى التغيير لمواصلة الكفاح لبناء نظام سياسي واقتصادي مستقل، وقادر على حمل آمال وأهداف تلك الشعوب.

كما اشرت انفا، هناك لحظات عاصفة في التوائم الثلاثة التاريخ والنهر والمقاومة من حيث تحقيق إنجازات تاريخية هامة في لحظة ما، وقد تحدث انهيارات عكسية في لحظات أخرى، وهكذا يسير النهر، احيانا يفيض فيغرق المناطق المحاذية لضفتيه، وأحيانا ينخفض مستوى المياة فيه، لكنه لا يتوقف عن الحركة والسير، وهذا هو حال المقاومة. رغم الإفتراق بينها في طبيعة الفعل والتأثير والنتائج. وهو ما يعني ان المعادل الفلسفي للتوائم الثلاثة واحد، والمنهجية الديالكتيكية تحكمها من حيث الربط بين الظواهر الملازمة لها.

لكن على المتابع لحركة التاريخ ان يتذكر دائما، ان الأحداث المأساوية في حياة الشعوب لا تتكرر، وان تكررت فإنها في اللحظات الأولى تكون تراجيدية، وفي المرات الثانية تكون هزلية، أو لا ترقى لمستوى الحدث الأول، لإن الشروط الذاتية والموضوعية مختلفة تماما، وبالتالي لا ترقى إلى مصاف الفعل الثوري التراجيدي. وهذا ينطبق على المقاومة وكفاح شعب من الشعوب. ولو اخذنا نموذجا سريعا وتوقفنا امام معركة الكرامة في آذار/ مارس 1968، وبين هبة القدس الرمضانية، كلاهما حدث هام، ولكن الكرامة صنعت تاريخا وفصلا إنعطافيا في مسيرة الكفاح الوطني التحرري للشعب العربي الفلسطيني، في حين ان هبة القدس، وإستتباعاتها في قطاع غزة، وعلى اهمية التحولات التي حملتها، لكنها لا ترقى لإنطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة عام 1965 ومعركة الكرامة، التي كرست المقاومة الفلسطينية كحقيقة في المعادل السياسي والقانوني الوطني والقومي والأممي، اما هبة القدس الرمضانية والمواجهة على جبهة قطاع غزة، فإنها تعتبر إنجازا هاما، لكنها جزءً من صيرورة الثورة وكفاح الشعب، وليست تحولا نوعيا بالمعنى الدقيق للكلمة. وهو ما يتطلب من بعض فصائل المقاومة الإنتباه للفروق بين لحظات التاريخ واشتراطاتها الموضوعية والذاتية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى