أقلام وأراء

عمر حلمي الغول يكتب: الموت الموجع

عمر الغول 14/07/2021

لا خلاف، ولا إعتراض على حكمة وقضاء الله جل جلاله، لكن لعنة وقساوة الموت تدفع الإنسان عند الفقد لغالي من الاصحاب، او حتى لمجرد سماع خبر وفاة مؤلم لذات الإنسان او لذويه، أو حدوث مأساة لمجموعة من بني البشر، حتى لو لم تعرفهم، او تلتقيهم، وبغض النظر عن مكان اقامتهم وهويتهم القومية يهز كيان الإنسان الحي. وكثير من الاحيان عندما نشاهد فيلما او مسلسلا تحتوي مشاهد مؤثرة او حدثا تراجيديا يهزنا، ويأخذنا إلى دوامة الحزن والبكاء. رغم اننا جميعا منذ لحظة إبصارنا ووعينا لحقائق الحياة، نعلم ان الحياة والموت حقيقتان مطلقتان، لا يملك الإنسان فيها القدرة على تجاوزهما، او إسقاطهما من الحساب الذاتي والإجتماعي.

كتبت بالامس بوستات تعزية لفقيدين، الأول للصديق الراحل حنا عيسى، والثاني للراحلة الشابة سهى جرار، التي لا اعرفها، ولم التقيها، ولكني اعرف والديها المناضلة خالدة وزوجها غسان جرار، ومع ذلك شعرت بالحاجة للكتابة عنهما، لإن للكتابة وقع آخر، والمساحة اكبر للوقوف على وقع الموت الكريه على النفس، وتكريما لهما، وللألم الذي تركاه بغيابهما، مع كلاهما مات بالجلطة، وهو موت طبيعي  

فالصديق حنا عبدالله عيسى هيلانة، رحل عن 64 عام، بيد انه مازال في ريعان الشباب، ولديه ملكات فكرية فلسفية ولاهوتية وقانونية وإجتماعية وتاريخية وسياسية متميزة. مسكون بالوطنية عموما والقدس العاصمة خصوصا والقومية العربية وبالإنسانية، دائم الدعوة للتسامح والتكامل والمحبة والعطاء. احيانا كثيرة قبل ان تسأله عن تاريخ محدد، ينثر امامك كما من المحطات التاريخية عن حدث ما، وتحديدا عن العاصمة، يعرف في تاريخ وتطور الأديان الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلامية، وهو من اتباع الديانة المسيحية الطائفة الأرثوذكس. يحفظ القرآن، وفي احد المرات أم في المصلين المسلمين، وذات يوم همست في أكثر من إذن من القادة بتوليه وزارة الأوقاف، لكن لظروف مختلفة لم يتم ذلك. وحنا لا يخفي اتباعه للديانة المسيحية، ولهذا تولى عدة مهام دينية لكفاءته، فكان وكيلا مساعدا في وزارة الأوقاف، ثم امينا عاما للهيئة الإسلامية المسيحية، وقبل ذلك تولى مسؤولية مدير عام وزارة العدل. لا سيما وانه حاصل على الدكتوراة في القانون الدولي، والف كتابين في مجال القانون، الاول “الشرق الاوسط والقانون الدولي” والثاني “القانون الإداري”، وله العديد من الدراسات والمقالات والبوستات في الفلسفة والجمال والفكر والإدارة والسياسية والديمقراطية، وهو ايضا عضو المجلسين الوطني لمنظمة التحرير والثوري لحركة فتح.

من مفارقات رحيل الصديق والرفيق والاخ حنا عيسى ابن قرية عين عريك البطلة، انه ولد في ال 17 من يوليو/ تموز 1957، ورحل تقريبا في عيد ميلاده في ال12 من تموز/ يوليو 2021، حيث اكمل عامه ال64. كما ان حنا عمل في سفارة فلسطين في موسكو منذ سنولت السبعينيات، وعمل مع عدد من السفراء، منهم: رامي الشاعر، وسعيد ابو عمارة، ونبيل عمرو. وكان متفوقا في دراسته وعمله، وربطته علاقات وطيدة مع كل من عمل معه. لا يحب الصدام والمناكفات، ولكنه يدافع عن موقفه بهدوء، او يصمت تحفظا وإعتراضا على رأي ما لا يتفق معه.

ربطتني بالصديق حنا معرفة ومودة قبل ان نعمل سويا في حقل النضال القومي، حيث مثلنا مع اخوات واخوة ورفاق من اتجاهات ومشارب مختلفة فلسطين في المؤتمر الشعبي العربي، وتم اختيارنا في الأمانة العامة للمؤتمر، وهذة الشراكة عمقت العلاقة مع الصديق الراحل ابو عيسى، ووطدت الاواصر المشتركة بيننا، وربطتنا بعلاقات وطيدة مع الأشقاء العرب. وتميز حنا كونه عنوانا للمحبة والتآخي، وجامعا للكل بدماثته وحسن اخلاقه وحيويته. لم يمت حنا، وسيبقى خالدا ابدا بانتاجه المعرفي، وبمواقع النضال، التي تبوأها.

اما الراحلة سهى غسان جرار، ابنة المناضلين خالدة جرار، عضو المجلس التشريعي المنحل، وعضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ورفيقها المناضل غسان، مأساة رحيلها تكمن في بعدين، الأول، انها فارقت الحياة عن عمر لا يزيد عن 31 عاما، وموتها وحيدة دون ان يعرف بموتها احد لساعات طوال، ولم تتمكن من بناء اسرة خاصة بها، والبعد الثاني، وهو الأكثر إيلاما ووجعا، انها فارقت الحياة ووالدتها تقبع في زنازين باستيلات الإستعمار الإسرائيلي. ولم تسمح سلطات السجون بوداع ابنتها وفلذة كبدها، وحتى إقتراح هيئة الأسرى والمحررين المتمثل بنقل جثمان الراحلة سهى إلى سجن والدتها لتلقي عليها نظرة الوداع، رفضتة تلك القوى الفاشية، المجردة من الانسانية، والعنصرية الفاشية.

لا اعرف الكثير عن سهى، ولكني عشت كفلسطيني مأساتها، ولعنة موتها، وهي ابنة اسرة مناضلة، نذرت نفسها للدفاع عن حقوق وثوابت الشعب، وبالتأكيد تمثلت ورضعت من حليب والدتها حب الوطن، والإنتماء للقضية الوطنية، والدفاع عن الإنسان الفلسطيني.

جنازتان مؤثرتان في يوم واحد وفي ساعتين متقاربتين، وفي مقبرتين لا تبعدان كثيرا عن بعضهما البعض في ذات المحافظة (رام الله البيرة). تعددت الأسباب والموت واحد، والألم واحد، والوجع واحد، والفقد واحد. رحمة الله عليهما، وتولاهما المولى بواسع رحمته، واسكنهما فسيح جنانه، كل منهما سيبقى خالدا بين اهله وذويه واحبائه بما قدمه للوطن والشعب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى