عمر حلمي الغول يكتب – الاستنتاجات الواهية
عمر حلمي الغول – 21/9/2020
قراءات العديد من المفكرين السياسيين والإعلاميين الصهاينة للتطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية على المسار الفلسطيني الإسرائيلي، وتداعيات التطبيع العربي الرسمي على مستقبل الشعب والقضية والقيادة الفلسطينية تعكس إسقاطاتهم الذاتوية، ورغباتهم المتماهية مع المشروع الصهيوني. رغم أن بعضهم يحاول أن يتلفع بثوب “الموضوعية”، ويشي بادعاءات استنطاقية للواقع من خلال البناء على قشور الواقع، أو الاتكاء على تمظهر بعض الظواهر الآنية والمؤقتة، وانعكاسها على صيرورة العملية السياسية.
من بين هؤلاء الكاتب الصهيوني آفي يسسخاروف، الذي نشر قبل أيام في صحيفة “معاريف” الإسرائيلية مقالا استنتج فيه ما معناه ان السلطة الوطنية في مأزق كبير”. ويعيد ذلك لعدم وجود “ما تقدمه للشعب الفلسطيني” حسب تعبيره، ويعمق فكرته الإسقاطية بعدم “وجود مفاوضات مع إسرائيل”. وكأن المفاوضات كانت موجودة منذ آذار/ مارس 2014، ويتابع تعزيز استنتاجه بالاعتماد على ما تشكله عملية الاستيطان الاستعماري من أخطار على مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني، فيقول إن “المستوطنات آخذة في التهام الضفة،” ليس هذا فحسب، بل إن “الوضع الاقتصادي صعب”، بالإضافة لتفشي “الكورونا الذي يضرب الضفة” وتجاهل قطاع غزة، على اعتبار أنه حسب معاييره الصهيونية “إمارة مستقلة”، وطبعا حدث ولا حرج عن عزل القدس العاصمة الأبدية عن الموضوع برمته. ويضيف إلى العوامل السابقة، وهو عامل “الانقسام مع حماس” الذي بقي على حاله. ويعمق كل ما تقدم بالقول “والأكثر من هذا كله، فقدت السلطة، بعد اتفاقات التطبيع الأخيرة (مع الإمارات والبحرين) عصاتها، التي كانت تهدد بها إسرائيل، وهي العلاقات مع الدول العربية”.
من يقرأ مجمل العوامل التي استند إليها يسسخاروف لمحاكاة الواقع الفلسطيني ونظام السلطة الوطنية السياسي، يلاحظ أنها عوامل قديمة، وليست جديدة في الصراع الدائر بين الشعب وقيادته الشرعية والدولة الاستعمارية الإسرائيلية، وهو متابع جيد للتطورات الجارية، وكتب عنها مرات كثيرة، ولكن الجديد هو زجها عن سابق إصرار وتصميم لتعزيز استخلاصاته الإسقاطية، ولتضخيم حجم عوامل الكبح والأزمة في بنية المشروع الوطني الفلسطيني. وللرد على ما ذكر الكاتب الصهيوني، أود التأكيد على عدم وجود مفاوضات بين القيادتين الفلسطينية والإسرائيلية منذ نهاية آذار/ مارس 2014 عندما رفض نتنياهو الإفراج عن الدفعة الرابعة من أسرى الحرية، الذين اعتقلوا قبل التوقيع على اتفاقية أوسلو. وتوقفت منذ ذلك التاريخ، ويعود السبب لرفض رئيس حكومة إسرائيل الفاسد والملاحق بثلاث قضايا أمام المحاكم الإسرائيلية عنوانها: الرشوة، وسوء الائتمان والاحتيال، التقدم خطوة واحدة للأمام باتجاه المفاوضات.
وأما عامل الاستيطان الاستعماري، ورغم الخلل الواضح في اتفاقية أوسلو بشأن هذا الملف، بيد أنه لو كان هناك نص واضح وصريح لوقف الاستيطان الاستعماري الصهيوني في أراضي الدولة الفلسطينية المحتلة، لما أوقفت الحكومات الصهيونية المتعاقبة عملية الاستيطان، ولتابعت ذات النهج، الذي تمارسه الآن، لأن المنظومة الفكرية السياسية الصهيونية لا تقبل القسمة من حيث المبدأ على السلام، إلا ما ندر من الصهاينة، الذين أدركوا عقم المشروع الكولونيالي الصهيوني، وغياب مستقبله في المحيط العربي، رغم التطبيع الجاري، والذي سيجري. ولأن الإرادة الدولية حتى الآن مازالت أسيرة السقف السياسي الأميركي، ولعدم تمكنها من فرض عقوبات على دولة إسرائيل الاستعمارية، رغم تحسن الأداء الدولي نسبيا في العقد الأخير.
وما يتعلق بالعامل الاقتصادي الفلسطيني الضعيف، باختصار شديد، كان وسيبقى ضعيفا، طالما بقي أسيرا وتابعا للاقتصاد الكولونيالي الصهيوني. ولن يتمكن من الارتقاء بدوره الريادي في ظل السياسة المحوطة والتبعية للسوق الإسرائيلية. الأمر الذي يحتم التخلص من الاستعمار الصهيوني ككل دون تجزيء، وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، عندئذ يمكن الحديث عن الاقتصاد الوطني.
وبالنسبة للكورونا وتفشيها، فوضعنا في كل الأحوال، أفضل من الوضع الإسرائيلي. وفي حال انسحبت الدولة الاستعمارية من الأرض الفلسطينية فإن القيادة الفلسطينية ووزارة صحتها ستحاصر الكورونا في أضيق نطاق، وتحد من انتشاره ووجوده.
وأعتقد أن موضوع الانقلاب ليس جديدا، وهو فعلا الخاصرة الأضعف في المبنى السياسي الفلسطيني. لكن اجتماع الثالث من ايلول/سبتمبر الماضي تحت قيادة الرئيس محمود عباس قد يشكل انفراجة نسبية إيجابية، ولصالح طي صفحة الانقلاب على الشرعية.
وفيما يتعلق بالعامل الأخير، وهو تطبيع الإمارات والبحرين، أيضا ليس جديدا، وكان قائما من تحت الطاولة منذ عقدين مع بعض الدول، الشيء الجديد، هو الإعلان الرسمي عنه. ويسسخاروف يعرف ذلك جيدا. ومع ذلك شكل حرف بوصلة الموقف الرسمي العربي، وأحدث انقلابا على مبادرة السلام العربية ومقررات القمم العربية ومنظمة التعاون الإسلامية. لكن هذا العامل لم يفت في عضد الشعب الفلسطيني ولا في مكانة قيادته السياسية، لا بل إن التطور الأخير، فتح القوس أمام تقريب المسافات بين القوى السياسية الفلسطينية، وعزز القواسم المشتركة، وفتح الباب على مصراعيه للتقدم خطوات للأمام لطي صفحة الانقلاب الأسود.
وعامل مهم وأساسي ينساه كل القادة والمفكرين السياسيين الصهاينة (وإن كانوا في اجتماعاتهم وورشات عملهم يتذكرونه دوما، ويؤرقهم جميعا) ، وهو الوجود الفلسطيني العربي المتجذر في الأرض الفلسطينية، والذي بات عمليا من حيث عدد السكان، أكبر من عدد اليهود الصهاينة ما بين البحر والنهر. وهذا الوجود لا تستطيع أية قيادة صهيونية أن تتغافل عنه، ولا أن تدير الظهر له، ولا يمكنهم ولا يمكن لترامب الأفنجليكاني والبروستانت جميعا أن يغمضوا العين عنه. وهذا العامل المتسلح بالعدالة التاريخية والسياسية، ومواصلة النضال الوطني، هو وحده من سيقرر مستقبل الصراع، وليس التطبيع العربي الانهزامي الرخيص.