عمرو حمزاوي: كيف يناقش الأوروبيون تحولات الشرق الأوسط؟
عمرو حمزاوي 10-9-2024: كيف يناقش الأوروبيون تحولات الشرق الأوسط؟
لأن التغيرات العالمية تتسارع من حولنا وساحات التنافس بين القوى الكبرى صارت تتسع لتشمل الاقتصاد والمال والعلم والتكنولوجيا والسلاح والدبلوماسية في ظل تراجع أمريكي وصعود صيني ومناوئة روسية وتردد أوروبي، لم يعد يوم يمر في مراكز البحث السياسي دون نقاشات جادة وسجالات مثيرة عن حقائق ما يدور.
وقد شاركت خلال الأسابيع الماضية في عدة حوارات مع أكاديميين وباحثين أوروبيين حول تداعيات تراجع النفوذ الأمريكي وتنامي الدور الصيني في الشرق الأوسط على المصالح الأوروبية التي حصرت في ضمان إمدادات الطاقة (النفط والغاز الطبيعي) والتجارة الحرة مع بلدان المنطقة، واحتواء الصراعات الإقليمية في إسرائيل/فلسطين وبين إسرائيل ولبنان وفي سوريا واليمن وليبيا، والسيطرة على الطموحات النووية الإيرانية، والحد من الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا.
فقد رتب الابتعاد التدريجي للولايات المتحدة عن حلفائها التقليديين في الخليج، وهم ولعقود طويلة حصلوا على ضماناتهم الأمنية وسلاحهم وتكنولوجيا استخراج وتكرير النفط والغاز الطبيعي ووارداتهم الصناعية والتكنولوجية من الأمريكيين، دفع الدول العربية في الخليج إلى البحث عن شراكات، بل وتحالفات بديلة، مع قوى كبرى أخرى كالصين وروسيا. وأسفر ذلك بالتبعية عن الحد من أدوار الأوروبيين الذين اعتادوا الاستفادة من نفوذ القوة العظمى الأمريكية ومن الضمانات الأمنية التي تقدمها ومن التجارة الحرة التي ترعاها لتطوير علاقات واسعة مع بلدان المنطقة، دوما ما كانت في مقدمتها إمدادات الطاقة إلى أوروبا وصادرات السلاح منها.
ضيق تراجع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط من مساحات حركة الأوروبيين الذين اعتادوا أن ينشطوا دبلوماسيا وسياسيا حين تنشط حليفتهم على الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي. وها هم يستسلمون اليوم في صمت لمحدودية الدور الأمريكي في صراعات الشرق الأوسط المشتعلة ويختفون من مشاهد التفاوض والدبلوماسية بشأن إنهاء حرب غزة واحتواء التوتر المتصاعد بين إسرائيل ولبنان والمخاطر الأمنية المتعاظمة في جنوب البحر الأحمر والقرن الإفريقي وفي السودان الذي يواجه وضعا إنسانيا كارثيا.
فقط فيما خص الحرب في اليمن ومسألة الملف النووي الإيراني، حاول الأوروبيون في الفترة الماضية البحث المستقل عن تسويات دبلوماسية تنهي المأساة الإنسانية التي يواجهها الشعب اليمني وتعيد إحياء المعاهدة الإطارية مع إيران لإبعادها عن امتلاك الأسلحة النووية. وفي الحالتين، لم تسفر المساعي الأوروبية عن الشيء الكثير في ظل غياب الولايات المتحدة.
أما الوجه الآخر لعملة اللافاعلية الأمريكية والتراجع الأوروبي فهو أن الصين صارت الشريك التجاري الأول لبلدان مجلس التعاون الخليجي، وتشعبت علاقات الصين والخليج لتتجاوز إمدادات الطاقة والمنتجات الصناعية إلى التعاون في مجالات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ومشروعات البنية التحتية والطاقة المتجددة وصادرات السلاح. سجل الضباط الفرنسيون أن حصة صادرات السلاح الصينية، وإن لم تتخط إلى اليوم 5 بالمائة من إجمالي السلاح المصدر إلى الخليج، قد تضاعفت بين 2018 و2023 بنسبة 200 بالمائة، وهو ما يؤشر على تنامي الدور الصيني فيما خص السلاح والتعاون العسكري.
خلال السنوات الماضية، وبينما أكثرت الإدارات الأمريكية المتعاقبة من الحديث عن الانسحاب من الشرق الأوسط والتوجه نحو آسيا حيث الفوائد «العظيمة» اقتصاديا وتجاريا وتكنولوجيا وحيث الميدان الأوسع للمنافسة الأمريكية-الصينية على قيادة النظام العالمي، ركزت الصين على تقوية علاقاتها مع كافة بلدان الشرق الأوسط وبمعزل تام عن تناقضات المصالح والسياسات فيما بينها. طورت الصين شراكة استراتيجية مع إيران بها تعاون اقتصادي وتجاري وعسكري ضخم، ووسعت تعاونها مع السعودية إلى الحد الذي صارت معه الشركات (الحكومية) الصينية من أهم موردي تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والبنية التحتية لمشروعات رؤية 2030 ورفعت على نحو غير مسبوق من مستويات استثماراتها الاقتصادية واستثمارات البنية التحتية في مصر، وحافظت على علاقاتها الجيدة مع إسرائيل التي تتشارك معها مجالات البحث العلمي والتطوير التكنولوجي ومشروعات الطاقة المتجددة.
ومكنت العلاقات الوطيدة مع إيران والسعودية، وعلى الرغم من تناقضات المصالح والسياسات بين البلدين في اليمن وفيما خص أمن الخليج، الصين من الوساطة الناجحة لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما واعتماد مبدأ عدم التدخل في شؤون الغير كأساس لأمن الخليج والشروع في مفاوضات سلام دائم في اليمن. نجحت الصين أيضا بعلاقاتها الجيدة مع كافة بلدان الشرق الأوسط في تنشيط العمل الدبلوماسي متعدد الأطراف على النحو الذي شوهد في تشجيع الصين لدول عربية وشرق أوسطية بغية الالتحاق كمراقبين بمنظمات للتعاون الإقليمي والدولي كمنظمة شنغهاي ومجموعة البريكس.
ومن ثم صار الأوروبيون يتخوفون كثيرا من تنامي الدور الصيني في الشرق الأوسط، ويفهمونه كخصم مباشر من نفوذ الغرب بشقيه الأمريكي والأوروبي. وللفرنسيين خبرة سلبية ليست بالقديمة فيما خص تداعيات حضور الصين في مناطق وأقاليم ذات أهمية استراتيجية للسياسة الخارجية الفرنسية والأوروبية، حيث رتب تنامي استثمارات وقروض وواردات وتكنولوجيا الصين في غرب إفريقيا «طرد فرنسا» (كرر أكثر من متحدث من بين الضباط الفرنسيين استخدام هذه العبارة حرفيا). غير أن خوف الأوروبيين من الصين في الشرق الأوسط معطوفا على أسفهم على تراجع الدور الأمريكي، يؤدي إلى استسلامهم إلى قراءة صراعية للعلاقة مع العملاق الآسيوي. وهي قراءة تصطنع من الصين «الاتحاد السوفييتي الجديد» في منطقتنا، وتدفع في اتجاه محاصرة دورها على الرغم من أن وساطتها الناجحة بين إيران والسعودية على سبيل المثال قد تسفر عن سلام دائم في اليمن وأمن في الخليج وخفض لمناسيب الصراع الإقليمي، وجميع ذلك يتلاقى مع ما تريده أوروبا.
وأغلب الظن أن خوف الأوروبيين يعود إلى توجسهم من استحواذ الصين على ما تبقى لهم من حصص في التجارة مع الخليج وعموم الشرق الأوسط، ومن تنامي صادرات السلاح الصيني على نحو يفقد أوروبا، خاصة فرنسا، سوقا هاما لتصدير أسلحتهم، ومن ضياع نفوذ الغرب الأمريكي والأوروبي على وقع صعود السياسة الخارجية الصينية وارتكازها إلى الوساطة والحلول السلمية والدبلوماسية متعددة الأطراف. والخطير في القراءة الصراعية لدور الصين في الشرق الأوسط من قبل الأوروبيين هو أنهم لا يملكون من أوراق الاقتصاد والتجارة والسياسة والدبلوماسية ما قد يمكنهم من محاصرة العملاق الآسيوي.
لسنا وحدنا في مصر والشرق الأوسط الذين نناقش التغيرات العالمية المتسارعة من حولنا، وفي موقع القلب منها تراجع الولايات المتحدة وصعود الصين. بل يناقشها صناع القرار في المؤسسات المدنية والعسكرية، والدبلوماسيون والباحثون في مراكز صناعة الفكر والسياسة في أوروبا؛ يناقشونها بتفاصيل كثيرة ورؤى متنوعة ومخاوف شتى.