عمرو حمزاوي: حرب الاستنزاف الجديدة مختلفة
على خلاف الحروب العربية – الإسرائيلية السابقة، تتسم الحرب الدائرة اليوم في الشرق الأوسط من جهة بطول أمدها، ومن جهة أخرى بالعجز الدولي عن إنهائها بتوظيف الأدوات الدبلوماسية المتمثلة في الوساطة والتفاوض، واستصدار القرارات الأممية القاضية إن بوقف لإطلاق النار أو بفض اشتباك القوات، أو بترتيبات لهدن مختلفة الآجال أو بمعاهدات سلام.
فحرب ١٩٤٨، وهي كانت قبل ٧ تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٢٣ أطول الحروب، نشبت في ١٥ أيار ١٩٤٨ ووضعت أوزارها في ١٠ آذار ١٩٤٩. أما العدوان الثلاثي، عدوان إسرائيل وبريطانيا وفرنسا على مصر بعد صفقة الأسلحة التشيكية (١٩٥٥) وتأميم قناة السويس (١٩٥٦)، فجاءت بدايته في ٢٩ تشرين الأول ١٩٥٦ وتوقف بعد أيام معدودة في ٧ تشرين الثاني. وإذا كانت حرب حزيران ١٩٦٧ لم تتجاوز على الجبهات المصرية والسورية والأردنية «الأيام الستة» وحرب أكتوبر تواصلت عملياتها العسكرية على الجبهتين المصرية والسورية بين ٦ و٢٥ أكتوبر ١٩٧٣، فإن الغزو الإسرائيلي للبنان وما نتج عنه من احتلال العاصمة بيروت بدأ في ٦ حزيران ١٩٨٢ وتوقف تدريجياً بانسحاب القوات الغازية إلى خطوط مختلفة اعتباراً من ٤ أيلول من نفس العام. خرج الاحتلال الإسرائيلي من مجمل الأراضي اللبنانية في ١٧ شباط ١٩٨٥، باستثناء شريط حدودي في الجنوب سيطر عليه إلى أن انسحب منه هو والميليشيات المتعاونة معه (جيش لبنان الجنوبي) في أيار ٢٠٠٠. أما حرب لبنان الثانية في ٢٠٠٦، والتي شهدت صراعاً عسكرياً بين إسرائيل و»حزب الله»، فتجاوزت الثلاثين يوماً بقليل، حيث نشبت في ١٢ تموز، وانتهت في ١٤ آب ٢٠٠٦.
فقط حرب الاستنزاف بين مصر وإسرائيل والتي تواصلت بين آذار١٩٦٩ وآب ١٩٧٠ هي الحرب العربية – الإسرائيلية الوحيدة الأطول أمداً، بحسابات اليوم، من الحرب الدائرة في غزة منذ العام الماضي والممتدة أخيراً إلى لبنان. غير أن حرب الاستنزاف، وهي استغرقت سنة ونصف السنة، راوحت عملياتها العسكرية بين حدة بالغة في بعض الفترات وبين شيء من الهدوء النسبي في فترات أخرى، واختلفت من ثم جذرياً عن الحرب الراهنة التي لا يمر بها بضع ساعات دون غارات جوية أو هجمات بالصواريخ والمسيّرات، أو توغل لقوات برية، أو إنذارات للسكان المدنيين بإخلاء مساكن وأحياء تارة وضيع ومدن تارة أخرى، دون دماء ودمار واسعة النطاق.
فيما خص المساعي الدولية لإنهاء الحروب، إن بتفعيل جهود الوساطة والتفاوض أو من خلال العمل في أروقة الأمم المتحدة، فتلك لم تغب أبداً منذ ١٩٤٨، وكثيراً ما أسفرت عن نتائج يعتد بها لجهة وقف إطلاق النار على جبهات القتال وفض الاشتباك بين المتقاتلين، وأنتجت أحياناً ترتيبات سلام لم تتوازن فقصر أجلها أو توازنت فاستقرت وطال أمدها، ومراراً ما أقرت التزامات وتعهدات على العرب وإسرائيل وضمانات دولية لصون احترامهم لها، وتفاوتت الأمور عند التطبيق الفعلي على نحو فاحش.
فكان أن أشرفت الأمم المتحدة على التفاوض بغرض إنهاء الحرب في ١٩٤٨، ونجحت، برعاية أميركية وبريطانية وفرنسية وبضغط من الهزيمة العربية، في حمل مصر والأردن وسورية ولبنان من جهة وإسرائيل من جهة أخرى على التوقيع المتبادل على «اتفاقات الهدنة» في ١٩٤٩.
وفي حرب ١٩٥٦، وبعد مقاومة مصرية باسلة في منطقة القناة، وبعد أن أنذر الاتحاد السوفياتي السابق إسرائيل وبريطانيا وفرنسا بحتمية إيقاف العدوان والانسحاب من الأراضي المصرية، وبعد أن أصدر الرئيس الأميركي آنذاك دوايت أيزنهاور إنذاراً تالياً مشابهاً، استصدرت الأمم المتحدة في ٦ تشرين الثاني ١٩٥٦ عبر الجمعية العامة (في دورة استثنائية طارئة أقر انعقادها مجلس الأمن باقتراح من الولايات المتحدة الأميركية ولم يكن من حق البريطانيين والفرنسيين استخدام الفيتو لمنعها لكونها مسألة إجرائية) القرار رقم ١٠٠١ القاضي بوقف إطلاق النار وانسحاب القوات المعتدية، فتوقفت العمليات العسكرية في اليوم التالي، ونفذ الانسحاب في كانون الأول من نفس العام من قبل بريطانيا وفرنسا، وفي آذار ١٩٥٧ من قبل إسرائيل.
في حرب ١٩٦٧، وبعد أيامها الستة التي انتهت بهزيمة الجيوش العربية، وافقت الأردن ومصر وسورية تباعاً على قرارات مجلس الأمن أرقام ٢٣٤ و٢٣٥ و٢٣٦ القاضية بوقف إطلاق النار دون تحريك للقوات الإسرائيلية التي كانت قد احتلت الضفة الغربية والقدس الشرقية وسيناء ومرتفعات الجولان. ثم عاد مجلس الأمن في تشرين الثاني ١٩٦٧ ومرر، بتوافق بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق وبعد مداولات طويلة، قراره الشهير ٢٤٢ الذي ألزم إسرائيل في نسخته المعتمدة باللغة العربية بالانسحاب من الأراضي العربية المحتلة في حرب الأيام الستة، بينما طالبها في نسخته المعتمدة باللغة الإنجليزية بالانسحاب من أراض عربية محتلة في الحرب. وفي جميع الأحوال، وبينما وافقت عليه الدول العربية، لم تنفذ إسرائيل مقتضى القرار ٢٤٢ وتحايلت، مستندة إلى الحماية الأميركية، على كل المساعي التي أطلقتها الأمم المتحدة (عبر المبعوث الخاص لأمينها العام وهو الدبلوماسي السويدي غونار يارنغ) لتحقيق انسحاب قواتها من الأراضي المحتلة أو أراض محتلة.
أما حرب الاستنزاف بين مصر وإسرائيل، فانتهت بمبادرة وزير الخارجية الأميركي آنذاك ويليام روجرز، التي أوقفت إطلاق النار المتبادل واكتفت بفتح الباب مجدداً أمام جهود الوساطة والتفاوض الدولية دون ممارسة واشنطن لضغط حقيقي على تل أبيب لتنفيذ القرار ٢٤٢.
فكان أن نشبت الحرب للمرة الرابعة بين العرب وإسرائيل في ٦ أكتوبر/ تشرين الأول ١٩٧٣ ترجمة لعمل مصر وسورية على تحرير الأرض المحتلة، واستمرت عملياتها العسكرية ١٩ يوماً تخللها استصدار مجلس الأمن للقرارات أرقام ٣٣٨ و٣٣٩ و٣٤٠ الداعية إلى وقف إطلاق النار، وتلاها إطلاق وزير الخارجية الأميركي آنذاك، هنري كيسنجر، لدبلوماسيته المكوكية التي أسفرت في كانون الثاني وأيار ١٩٧٤ توالياً عن توقيع مصر وسورية لاتفاقات «فض الاشتباك الأول» مع إسرائيل، ثم عن إبرام مصر وإسرائيل اتفاق «فض الاشتباك الثاني» في أيلول ١٩٧٥، وكل ما تلاه من مبادرات ومفاوضات ومعاهدات السلام، والتي أعادت إلينا ما تبقى من أرضنا المحتلة في سيناء بعدما نجح جيل مصري عظيم في تحريره من أرضها في حرب أكتوبر المجيدة.
أما الغزو الإسرائيلي للبنان في ١٩٨٢، وكذلك حرب لبنان الثانية في ٢٠٠٦، فقد شهدا تدخلات دولية كثيرة، ومساعي أممية متتالية لإيقاف إطلاق النار حد منها الانحياز الأميركي لإسرائيل، ومبعوثين خواص أميركيين وأوروبيين (ومبعوث سوفياتي في الثمانينيات) جالوا عواصم الشرق الأوسط، ومعاهدة استسلام إبان الغزو في ١٩٨٢ سرعان ما سقطت (ما سمي معاهدة السلام اللبنانية – الإسرائيلية الموقعة في ١٧ أيار ١٩٨٣)، وخططاً أميركية لانسحاب القوات الإسرائيلية الغازية لم تنفذ بالكامل، ومقاومة باسلة طردت المحتل الإسرائيلي في ٢٠٠٠، وقراراً شهيراً لمجلس الأمن أنهي حرب ٢٠٠٦ وهو القرار ١٧٠١ الذي شكل قوات السلام الدولية العاملة في لبنان، وله مقتضيات أخرى لم تطبق في الماضي لامتناع إسرائيل و»حزب الله» عن الالتزام الفعال بها.
بصرف النظر عن تقييم مضامين ونتائج المساعي الدولية لإنهاء الحروب المشتعلة في الشرق الأوسط منذ ١٩٤٨، ودون تجاهل لحقيقة راسخة مؤداها أن الانحياز الأميركي على وجه الخصوص والغربي على وجه العموم للدولة العبرية، والذي ترجم إلى سلاح ودعم اقتصادي ومالي ودبلوماسي وفر الحماية الشاملة لها ولاحتلالها للأراضي العربية ولاعتداءاتها المتكررة في جوارها المباشر، وفي جوارها الإقليمي بمعناه الواسع، ولتمسكها بتصفية القضية الفلسطينية وإلغاء حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، يظل الشاهد أن العالم لم يتجاهل في الماضي الحروب العربية – الإسرائيلية، ولم يتركها تتواصل لأمد زمني يتشابه مع ما يحدث إزاء الحرب الدائرة اليوم. وإذا كان العجز الدولي عن إنهاء حرب غزة وحرب لبنان ٢٠٢٣ – ٢٠٢٤ يرتبط بغياب رغبة الولايات المتحدة في التدخل الحاسم لغلّ يد إسرائيل المعتدية وتأييدها لها بإمدادات السلاح والمال المستمرة دون انقطاع، فإنه أيضاً يتعلق بضعف أدوار القوى الدولية الأخرى كالدول الأوروبية والصين وروسيا، وبالتوازنات الغائبة عن الشرق الأوسط الذي صار مسرحاً لصراع إسرائيلي – إيراني مباشر وبالوكالة (عبر حركات اللادولة كـ«حزب الله» والحوثيين) ولسباق تسلح ندفع نحن العرب كلفتَيهما.