أقلام وأراء

عمرو حمزاوي: أوكرانيا بين تنوع الأوراق الروسية والعجز السياسي للغرب

عمرو حمزاوي 22-9-2024: أوكرانيا بين تنوع الأوراق الروسية والعجز السياسي للغرب

 

مر أكثر من عامين على نشوب الحرب الروسية ــ الأوكرانية، والسياسة الغربية التي أرادت توظيف الحرب لإلحاق هزيمة عسكرية ساحقة بالقوات الروسية في ميادين القتال وإنزال ضرر بالغ بالاقتصاد الروسي من خلال فرض العقوبات التي لم تحقق بعد نجاحات تذكر.

على الصعيد العسكري، وعلى الرغم من إمدادات السلاح المستمرة للجيش الأوكراني من الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا وبريطانيا وبدرجة أقل من فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية، لم تتراجع القوات الروسية في المناطق التي احتلتها في شرق وجنوب أوكرانيا ولم تتقدم القوات الأوكرانية في تلك المناطق على الرغم من محاولاتها المتكررة. 

وإذا كان الاختراق الأوكراني للأراضي الروسية في منطقة كورسك والتهديدات الكثيرة الصادرة عن كييف باستهداف مدن ومواقع في العمق الروسي ومطالبتها لداعميها الغربيين بالسماح لها باستخدام أسلحتهم بعيدة المدى لهذا الغرض (تحديداً الأسلحة الأميركية والألمانية)، فإن القوات الروسية تبدو اليوم وقد أوقفت التقدم الأوكراني وترد بالمثل على التهديدات بقصف متواتر لكييف والمدن الأوكرانية الأخرى في الوسط والغرب (باستخدام الصواريخ والمسيرات) وتثبت دعائم سيطرتها على شبه جزيرة القرم في جنوب أوكرانيا والمناطق الحدودية في الشرق ذات الأغلبية السكانية الروسية على نحو يجعل من ضمها للاتحاد الروسي واقعاً تصعب منازعته.

على الصعيد الاقتصادي، لم تسفر العقوبات التجارية والمالية والتكنولوجية التي فرضتها الولايات المتحدة والدول الأوروبية على روسيا، ومن ضمنها حظر استيراد الطاقة الروسية، لا عن انهيار معدلات النمو ولا عن ارتفاع معدلات التضخم أو عن زيادة نسب الفقر والبطالة في الاتحاد الروسي. 

على العكس من ذلك، سجل الاقتصاد الروسي نمواً قدر بـ٣,٦ بالمائة في ٢٠٢٣ بينما لم تتجاوز معدلات التضخم في ٢٠٢٢ و٢٠٢٣ حدود ٨ بالمائة.

أما على الصعيد السياسي، فقد كان الرهان الغربي، ومنذ اللحظة الأولى لنشوب الحرب، هو أن تتعثر حكومة الرئيس فلاديمير بوتين عسكرياً واقتصادياً في أوكرانيا على نحو يفتح أبواب الانتقاد والاحتجاج داخل دوائر نخبة الحكم الروسية وفي الفضاء العام على اتساعه ويرتب «انقلاب قصر» يطيح ببوتين ويأتى ببديل ينهى الحرب في أوكرانيا. 

هنا أيضاً لم تصدق التوقعات الأميركية والأوروبية، فلا مكانة بوتين اهتزت بين دوائر نخبة الحكم وأوساط النخب الاقتصادية والمالية، ولا سيطرته على مؤسسات الدولة تراجعت، ولا معارضة داخلية أو سياسية عامة تبلورت وضغطت من أجل إنهاء الحرب. 

بل إن بوتين وحكومته تجاوزا خلال العامين الماضيين دون كلفة سياسية كبيرة أزمات داخلية من نوعية تمرد «ميليشيات فاغنر» ثم مقتل قائدها في حادثة سقوط طائرة خاصة في ٢٠٢٣ ووفاة المعارض الروسي أليكسى نافالني في بدايات ٢٠٢٤ في ظروف غامضة داخل سجن سيبيري.

•  •  •

الواقع أن نجاح روسيا في التماسك العسكري والاقتصادي والسياسي لم يرتبط فقط بتوظيف الثروات والقدرات الداخلية الهائلة للدولة صاحبة المساحة الجغرافية الأكبر في العالم والتي مكنت على سبيل المثال المؤسسات الصناعية والعسكرية من رفع قدراتها الإنتاجية وقيادة النمو الاقتصادي منذ ٢٠٢٢. 

كذلك لم يكن النجاح الروسي مجرد تعبير عن القبضة السياسية والأمنية القوية للرئيس فلاديمير بوتين التي ساعدته على التحييد السريع لميليشيات فاغنر وإنهاء تمردها وعلى مواصلة الخروج على الفضاء العام في الدولة مترامية الأطراف بمظهر السلطة المنضبطة والحكومة الفعالة. فالشاهد أن التماسك الروسي تواكب مع توظيف موسكو الناجح لتحالفاتها الدولية لتقليل التداعيات السلبية للسلاح الغربي المتدفق على أوكرانيا وللعقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على روسيا.

فقد حصلت روسيا على أسلحة نوعية (صواريخ باليستية ومسيرات) وذخائر من حليفتيها الاستراتيجيتين، إيران وكوريا الشمالية، ساعدتها على مواجهة مراحل التراجع في الأداء العسكري لقواتها التي شهدها ٢٠٢٣ والتغلب على محطات النقص في الإمدادات العسكرية.

أما اقتصادياً وتجارياً ودبلوماسياً، فاستفادت روسيا كثيراً من تطور تعاونها مع الصين حيث نمت التبادلات التجارية بين البلدين بنسبة تتجاوز ٣٥ بالمائة في ٢٠٢٣ واعتمدت حكومتا الدولتين العملتين الوطنيتين، الروبل والإيوان، كأساس نقدي للتبادل. 

كذلك استفادت روسيا من تنامى علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع الهند ومع دول مجموعة البريكس والعديد من بلدان الجنوب العالمي، وأغلبية تلك الدول رفضت المشاركة في تطبيق العقوبات الغربية. 

كما أن التنسيق الروسي مع مجموعة الدول المصدرة للنفط والغاز الطبيعي في منظمة أوبك بلس، خاصة مع دول مجلس التعاون الخليجي، اتسم بالفاعلية التي نجحت في الحفاظ على استقرار الأسعار في الأسواق العالمية وتجنبت انهيارها الذي سعت إليه الولايات المتحدة الأميركية من خلال الضغط المتكرر على بعض دول أوبك بلس لرفع معدلات الإنتاج.

كذلك نجحت السياسة الخارجية لموسكو في حشد رفض دولي خارج الغرب للعقوبات، وصنعت توافقاً دبلوماسياً عالمياً يعترف باعتبارات الأمن القومى الروسي التي لا يمكن تجاهلها فيما خص وضع أوكرانيا وخطر انضمامها إلى عضوية حلف الناتو. 

وانعكس ذلك بوضوح في السلوك التصويتي للدول غير الغربية في الجمعية العامة للأمم المتحدة على مقترحات قرارات إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا التي تقدمت بها الدبلوماسيات الأميركية والأوروبية ورفضتها أو تحفظت عليها أغلبية من الدول الآسيوية والإفريقية والأميركية اللاتينية. ثم كان أن شغلت الحرب في غزة اهتمام العالم، حكومات وشعوباً، ورتبت تراجع المتابعة السياسية والإعلامية للحرب الروسية ــ الأوكرانية وأعادت إلى الأذهان حقيقة ازدواجية معايير الغرب الذي يدعي رفض الاحتلال الروسي للأراضي الأوكرانية لمخالفته القانون الدولي بينما يقبل أو يصمت عن الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية ويتجاهل منذ عقود حقيقة مخالفته للقوانين والمواثيق الدولية.

 

•  •  •

بعد مرور أكثر من عامين على نشوب الحرب الروسية ــ الأوكرانية، يقف الغرب أمام حصاد سلبي لسياسته تجاه روسيا. فلا القوات الروسية دحرت ولا الاقتصاد انهار ولا العقوبات الغربية تحولت إلى عقوبات عالمية. 

وصار الرفض الأميركى والأوروبي لذهاب الأوكرانيين إلى مفاوضات مع روسيا قد تنتج تسويات سلمية وتنهي الحرب عنواناً لفشل دبلوماسي ذريع، وسبباً رئيساً لاستمرار القتال وتصاعد كلفته الإنسانية والمادية.

قبل الحرب، تجاهلت واشنطن اعتبارات الأمن القومى الروسي التي تجعل من انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو ووصول الحلف إلى الحدود الجنوبية للاتحاد الروسي مسألة بالغة الخطورة ومحل رفض قاطع قد يرتب التحرك العسكري لموسكو. 

وبعد نشوب الحرب، قادت واشنطن ومعها برلين ولندن وباريس رفض التفاوض مع موسكو وضغطت على كييف لعدم الذهاب إلى جلسات مفاوضات انطلاقاً من أن السلاح الغربي سيغير المعادلات العسكرية على الأرض في الشرق والجنوب الأوكراني ومن أن العقوبات ستزج بالاقتصاد الروسي إلى أتون أزمة خانقة.

في البدء مارست واشنطن الاستعلاء على الاعتبارات المشروعة للأمن القومي الروسي، ثم تورطت ومعها كبريات العواصم الأوروبية في حسابات استراتيجية خاطئة ثبت فشلها وارتدت نتائجها السلبية إلى الدول الأوروبية التي تعاني اليوم بشدة مع توقف إمدادات الطاقة الروسية وتراجع معدلات نموها الاقتصادي (وهو التراجع الذي بلغ حد الانكماش في الحالة الألمانية في ٢٠٢٣).

اليوم، أيضاً على واقع تصاعد المعارضة السياسية الداخلية في الغرب للمساعدات العسكرية والاقتصادية والمالية المقدمة لأوكرانيا، إن من الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة أو من أحزاب اليمين المتطرف التي تحقق نجاحات متتالية في انتخابات الدول الأوروبية، ليس أمام واشنطن وبرلين ولندن وباريس واقعياً وبحسابات السياسة والاقتصاد والمصالح الاستراتيجية غير دفع أوكرانيا إلى البحث عن تسويات تفاوضية وسلمية للحرب لن تأتي في حدودها الدنيا سوى بقبول حياد أوكرانيا وعدم انضمامها إلى حلف الناتو والاعتراف بسيادة روسيا على شبه جزيرة القرم.

فلا غزو الأراضى الروسية في كورسك سيسفر عن انقلاب المعادلات الاستراتيجية والعسكرية على الأرض ولا التهديد باستخدام الصواريخ والطائرات الأميركية والألمانية في الهجوم على العمق الروسي سيغير من الحسابات. 

مركز الناطور للدراسات والأبحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى