عماد شقور يكتب – مفارقات مذهلة بين حدثين يفصل بينهما أسبوعان فقط
عماد شقور * – 1/6/2018
مدة كل واحد من الحَدَثين المعنيين في مسلسل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لا تزيد عن بضع ساعات في كل واحد من يومي الحَدَثين: الرابع عشر من الشهر الماضي، (عشية ذكرى النكبة الفلسطينية سنة 1948)، والتاسع والعشرين من الشهر ذاته، أي يوم الثلاثاء من هذا الأسبوع، في فارق زمني قصير للغاية، مدته خمسة عشر يوما فقط.
الحدث الأول: مظاهرة فلسطينية، سلمية، شارك فيها عشرات الآلاف من أهل قطاع غزة واللاجئين فيه، ضمن مسلسل نشاط وطني فلسطيني تحت اسم «مسيرات العودة»، الذي انطلق في الذكرى الثانية والاربعين لـ»يوم الارض» عام 1976.
الحدث الثاني: مواجهات عسكرية فلسطينية إسرائيلية لبضع ساعات، استخدمت فيها من كلا طرفي الصراع، «صواريخ فلسطينية» (!!) وقذائف مدفعية ودبابات وطائرات حقيقية.
خسائر الفلسطينيين الحقيقية الملموسة في الحدث الأول: 62 شهيدا، بينهم أطفال كثيرون، وأكثر من 2000 جريح ومصاب، بينهم بالتأكيد أكثر من 200 مصاب، سيظلون معاقين، وعائلات تحطمت حياتها، ومجتمع يدفع الثمن على مدى عشرات السنين.
خسائر الإسرائيليين الحقيقية الملموسة في الحدث الأول: صفر في الأرواح. صفر في الاصابات. بعض المزروعات.
خسائر الفلسطينيين الحقيقية الملموسة في الحدث الثاني: صفر في الأرواح. إصابات وبعض تدمير في عدد من المنشآت والمواقع. واحد من الانفاق في منطقة رفح، يصل الى مناطق الاحتلال 1948، بعد مروره في عمق أراضي سيناء المصرية.
خسائر اسرائيل الحقيقية الملموسة في الحدث الثاني: صفر في الأرواح، صفر في الإصابات. كسور في ثلاث درجات من درج بيت في إحدى المستوطنات على حدود قطاع غزة. حفرة في ساحة حديقة للأطفال.
لا مجال ولا مكان للمقارنة. ولكن…
نصل هنا إلى الفحوى وإلى الدرس الذي تسعى إسرائيل لتلقينه لحماس: استمروا في تمسككم بسياستكم السابقة، قبل تحولكم المرفوض باتجاه اعتماد سياسة تبني النضال الفلسطيني الجماهيري السلمي، الذي يفضح اسرائيل في العالم، ويؤلب الرأي العام العالمي ضدها وضد احتلالها واستعمارها ومجمل سياساتها العنصرية الفاشية. فذلك ما لا تستطيع اسرائيل القبول به والسكوت عنه. وهي لذلك ستضربكم بقوة، وتكبدكم خسائر بالارواح تُعدّ بالعشرات، وخسائر في الاصابات تُعدّ بالآلاف، وخسائر بالإعاقات تُعّد بالمئات، وتلحق كل ذلك بما هو أخطر عليكم: تهديدكم كقيادات لحركة حماس بالتصفية الجسدية، ونقل هذا التهديد، تأكيدا لجديّته، ليس فقط بتصريحات علنية لمسؤولين ووزراء وجنرالات في الجيش والأجهزة الأمنية فقط، بل عبر وسطاء عرب ايضا.
مقابل هذه الرسالة الاسرائيلية البالغة الدموية، عبر فوهات بنادق جنود في جيشها، قنّاصة/ صيّادي بشر مدنيين فلسطينيين، ردا على تحرك ونشاطات فلسطينية سلمية، وتعزيز تلك الرسالة بتهديد صريح بضرب رؤوس قادة حماس، فإنها ترسل رسالة سلامة وأمان «مشفّرة»، عبر تغطيتها بقصف طائرات وبقذائف دبابات ومدفعية وقطع بحرية، ولا تقتل احدا بالمطلق. إنها رسالة تعني بوضوح، أن استمروا في نهجكم المعروف، الذي يوفر لكم عباءة وجلبابا مقاوما، ويوفر لاسرائيل، في الوقت ذاته، ساترا لعوَراتها الاحتلالية والاستعمارية والعنصرية، ومبررا لاستمرارها في عدوانها وطغيانها، ولاحتفاظها أيضا بصورة الضحية، في مواجهة فلسطينيين وعرب ومسلمين غلاظ القلوب، يرفعون رايات محو اسرائيل والاسرائيليين من الوجود.
آن للفلسطينيين ان يستوعبوا الدرس: لا تستطيع إسرائيل العنصرية، دولة الاحتلال والاستعمار والأبرتهايد، تحمل أي نضال فلسطيني سلمي يعرّي سياساتها ويفضحها. وهي ترتكب في مواجهة هذا النضال الفلسطيني المشروع كل الحماقات والموبقات التي ترغمها على التخلي عن سياساتها هذه، وهو نضال مؤهل وكفيل بتقريب نهايتها، كدولة، اذا استمرت في اعتماد هذه السياسات. على أن إسرائيل لم تكن واثقة تماما من وصول رسالتيها: الرسالة الواضحة الصريحة، والرسالة المُشَفّرة، إلى قادة حماس، فألحقتها برسالة أكثر وضوحا وأكثر صراحة، عبر مقال للصحافي الإسرائيلي يوآف ليمور، وفي جريدة «يسرائيل هَيوم»، البوق الرسمي لحكومة نتنياهو المغرقة في العنصرية، تحت عنوان: «على حماس أن تقرر، هدنة أم حربا»، وهو المقال الذي انتهى بالقول: «على حماس أن تختار وتسلك واحدا من طريقين: الهدنة أو الحرب»، وكأنه يقول لقادة حماس أنه لا خيار ثالث أمامكم، فاختيار طريق نضال فلسطيني جماهيري سلمي، هو في نظر اسرائيل طريق حرب. ولم يقتصر هذا الموقف الإسرائيلي على التهديد لحماس، وقياداتها على وجه الخصوص، فقط، بل تم تدعيمه بالإغراءات. وتمثل ذلك بإرسال وعود تضمنتها مقالات عديدة في الصحافة الإسرائيلية، لعل أوضحها ما قاله المحلل العسكري في جريدة «هآرتس» الاسرائيلية، أمس الأول، حول ان اسرائيل «مستعدة للتساهل حول طلبها نزع سلاح حماس في قطاع غزة، مقابل استعداد حماس لاعتماد سياسة اعادة إعمار غزة» وهو البرنامج الذي يتضمن إنشاء ما يمكن اعتباره مناطق صناعية على ارض سيناء المصرية، ملاصقا لحدود غزة، لتكون مواقع لاستيعاب اليد العاملة في قطاع غزة الذي يعاني من مستويات مرعبة من البطالة.
هذه المفارقات تشكّل رسالة للفلسطينيين جميعهم، فردا فردا، ولأبناء قطاع غزة تحديدا، أكثر من غيرهم من الفلسطينيين، وهي موجهة بشكل أخَصّ، الى قادة حركة المقاومة الاسلامية (حماس). لسببين: أولهما أن حركة حماس هي القوة التي تسيطر، عمليا، على قطاع غزة، منذ انقلابها الدموي في مثل هذا الشهر سنة 2007؛ وثانيهما أن مدى استيعابها للدرس البالغ الوضوح، بين مفارقات الحدثين المعنيَّين، يكشف مدى التزامها بالمصلحة الوطنية الفلسطينية من عدمه.
من حق حماس ان تنزعج وأن تستنكر استدعاءها الى قاعة الامتحان، ومطالبتها بالاجابة على السؤال. لكن حق الجماهير الفلسطينية عموما، وفي قطاع غزة تحديدا، في الحصول على جواب للسؤال، يتقدم على حق حماس ويفوقه اهمية. فهذه الجماهير هي التي تقدم التضحيات من ارواح ابنائها وتتكبد آلام وعذابات وجراح وإعاقات ابنائها وعائلاتهم.
نقول كل هذا ونحن على بعد اربعة ايام فقط، من الذكرى الحادية والخمسين لكارثة حرب حزيران المشينة. على مدى هذه العقود الخمسة لم تستطع إسرائيل المستعمِرة ان تبتلع ما استعمرته من ارض دولة فلسطين. ونقوله بعد اسبوعين من الذكرى السبعين للنكبة الفلسطينية، التي لم تستطع اسرائيل المحتلة هضم الفلسطينيين فيها وسلخهم عن شعبهم الفلسطيني العربي. نقول هذا ونحن نشهد اطفال وشباب فلسطين في قطاع غزة يعيدون الاعتبار والاحترام للورق: تمكن شعب الصين بملياره ونصف المليار من البشر، بقيادة زعيمه الاسطوري ماو تسي تونغ، ان يُعمِّم تعبير «الاستعمار نمر من ورق»، تحقيرا للاستعمار وقوته. وها نحن نشهد تحويل أطفال وشباب فلسطين في قطاع غزة لـ»طائرات من ورق» أدوات قتالية، وسلاحا، يزعج ويؤلم من يمتلكون طائرات الإف 35 القتالية الأمريكية الصنع، التي ترى ولا تُرى.
يبقى السؤال الأخير.
إلى أين تتجه غزة؟ وبأي اتجاه تهُبّ رياح «غزة الغزيّين»؟.
ثم، بأي اتجاه تَهُبّ رياح «غزة حماس»؟.
لا ارى مبرراً لليأس.
*كاتب فلسطيني