أقلام وأراء

عماد شقور يكتب – استراليا… أوروبا… روسيا وأمريكا و… القدس !

 عماد شقور – 20/12/2018

في ستينيات القرن الماضي، حبك الاسرائيليون وتداولوا طرفة عن رئيس حكومتهم في حينه، ليفي إشكول، بسبب ما عرف عنه من تردد في اتخاذ أي قرار، انه خُيِّرَ بين ان يقرر إن كان يريد فنجان قهوة ام شايا، فكان «قراره»: نُص قهوة ونُص شاي.

استعاد الصحافي الاسرائيلي المعروف، ناحوم برنياع، في مقاله يوم الجمعة الماضي، في جريدة «يديعوت احرونوت»، هذه الطرفة عن اشكول، ليصف بها قرار رئيس حكومة استراليا، سكوت موريسون، اعتراف بلاده، رسميا، بـ«القدس الغربية» عاصمة لدولة اسرائيل، وإرجاء نقل السفارة من تل ابيب اليها، الى حين التوصل لاتفاقية سلام فلسطينية اسرائيلية، وتحقيق تطلعات الفلسطينيين بقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية.

هذا التوصيف ليس ملائما، فقرار «نص قهوة، نص شاي» ليس حكيما، في حين ان قرار الاعتراف بالقدس الغربية عاصمة لاسرائيل، مشروطا ومربوطا بقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، هو قرار حكيم.

لا اعتقد بفائدة اتخاذ بعض الفلسطينيين، من سياسيين وغيرهم، مواقف شاجبة ورافضة للقرار الاسترالي، ولا ما ذهب اليه بعض الكتاب الفلسطينيين في تهويشهم واستنكارهم لهذا القرار، واعتبار احدهم انه «موقف يصب في خدمة دولة اسرائيل المارقة».

امس الأول اصدرت ثمان دول اوروبية، هي فرنسا وبريطانيا والمانيا وايطاليا والسويد وهولندا وبلجيكا وبولندا، بيانا مشتركا قالت فيه: «ان الاتحاد الاوروبي ما زال ملتزما بالمبادئ التي اتفق عليها المجتمع الدولي بخصوص اتفاق سلام بين اسرائيل والفلسطينيين»، وشدد البيان المشترك على ضرورة ان يشمل اتفاق السلام هذا «القدس عاصمة للدولتين»، وكذلك «الاخذ بعين الاعتبار للاحتياجات الأمنية لكلا الطرفين، وانهاء الإحتلال، وتحقيق الطموحات الفلسطينية في السيادة»، وتضمن البيان ايضا «ان أي مشروع لا يتضمن تقسيم القدس، ويتجاهل خطوط (ولا يقول حدود) 1967، هو مشروع غير قابل للتطبيق».

لكن، وقبل القرار الاسترالي في الاسبوع الماضي، وبيان الدول الرئيسية في الاتحاد الاوروبي امس الأول، كانت روسيا قد اعلنت، في بيان صادر عن وزارة الخارجية، قبل اكثر من عام ونصف، وتحديدا يوم 6.4.2017، «اعتراف روسيا رسميا، بالقدس الغربية عاصمة لاسرائيل»، واكدت وزارة الخارجية في بيانها «التزام روسيا بمبادئ الأمم المتحدة، للوصول الى تسوية فلسطينية اسرائيلية مرتقبة، وترى في القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطينية مستقبلية».

صحيح ان استراليا واحدة من الدول الاقرب في مواقفها السياسية من اسرائيل. ولكن ماذا عن بريطانيا وعد بلفور والانتداب؟، وماذا عن فرنسا طائرات الميراج والمفاعل الذري في ديمونا؟، وماذا عن المانيا والتعويضات التي بنت اقتصاد اسرائيل؟.

في «الحياة الدنيا»، فإن العدل الممكن الوحيد، هو العدل الممكن المتوازن. عدل «لا يموت الذيب.. ولا يفنى الغنم». هذا هو العدل الذي يجدر بالفلسطينيين، وباليهود في اسرائيل ايضا، ان يسعوا لإحرازه

اما روسيا فقصة اخرى. روسيا والعرب، والفلسطينيون تحديدا، وعلى مدى قرون عديدة، يرتبطون بعلاقات ودية، وتعاون مثمر على اصعدة سياسية وعسكرية واقتصادية وعلمية وغيرها. في كتاب «سوريا وفلسطين تحت الحكم العثماني» للكاتب والديبلوماسي الروسي من اصل يوناني، قسطنطين بازيلي، [وبالمناسبة، فإن هذا الكتاب الذي صدر باللغة الروسية سنة 1861، لم يترجم الى العربية ويصدر عن دار التقدم في موسكو، الا سنة 1989، قبل اسابيع فقط من انهيار الاتحاد السوفياتي، وهذا ما يفسر عدم اطلاع قرّاء اللغة العربية عليه بشكل واسع]، يكشف الكاتب ان اول قنصلية لروسيا في المنطقة كانت في مدينة يافا الفلسطينية، في مطلع ثلاثينيات القرن التاسع عشر، قبل أن تنتقل الى بيروت لاحقا. وقبل ذلك بقرن كامل، وفي اواسط القرن الثامن عشر، كان رمز محاولة الاستقلال الفلسطيني الأول، ظاهر العمر الزيداني، قد فتح علاقات تجارية مع روسيا، وتطورت لتصبح علاقات سياسية وصلت الى تحالف عسكري. ومن التاريخ البعيد ننتقل الى التاريخ القريب، والعلاقات العربية السوفياتية ايام الزعيم العربي الخالد، جمال عبد الناصر، وقصة سد اسوان والدعم السياسي في مواجهة العدوان الثلاثي، والدعم العسكري الذي مكن العرب، وخاصة مصر وسوريا، من شن حرب اكتوبر 1973، وصولا الى دعم منظمة التحرير الفلسطينية التي تغنّت بـ«الاتحاد السوفياتي، الحليف الاستراتيجي للثورة الفلسطينية». ثم الى ايامنا هذه، ولجم الغطرسة الاسرائيلية في الاجواء السورية، وتزويد الجيش العربي السوري بصواريخ إس إس 300.

روسيا وفلسطين والعرب، بهذا التاريخ البعيد والمتوسط والواقع الحالي، اصدرت بيانا رسميا قبل سنة وثمانية اشهر واسبوعين، بيانا، يكاد يكون البيان الاسترالي الذي صدر قبل خمسة ايام، والبيان الذي اصدرته ثمان دول رئيسية في الاتحاد الاوربي قبل يومين فقط، نقلا عنه بالكلمة وبالفاصلة والنقطة ايضا. لماذا اذن قصر التهجم والإدانة على البيان الاسترالي فقط؟. هل هناك من مبرر؟.

هذا لا يعني، بالمطلق، لا الترحيب ولا التأييد ولا حتى التوقف او الدعوة الى إدانة المواقف السياسية الاسترالية الداعمة للاحتلال والاستعمار الاسرائيلي. لكن العمل السياسي الفلسطيني الحكيم، هو نسج علاقات متينة ومتواصلة، مع اندونيسيا اساسا، ومع ماليزيا، (ورئيسها، مهاتير (مخاتير) محمد، الصديق الكبير للشعب الفلسطيني)، اللتين ترتبط معهما استراليا بعلاقات قوية ومتشعبة، اقتصادية اساسا، وامنية وسياسية ايضا، لمحاولة التأثير عليها ودفعها لاعتماد سياسة اكثر توازنا ودعما للحقوق المشروعة لشعبنا الفلسطيني.

ماذا عن امريكا، وإدارتها برئاسة ترامب؟، واعلان اعترافها بالقدس عاصمة لاسرائيل، ونقل سفارتها اليها؟.

هذا بالتأكيد موضوع آخر ومختلف. اعلان ترامب وادارته تحدث عن «القدس»، ولم يتحدث عن القدس الغربية، ولا عن القدس الشرقية، وإن كان قد برر الاعتراف بان في القدس اربعة مواقع حددها: الكنيست (البرلمان الاسرائيلي)، مقر رئيس الدولة، مقر الحكومة الاسرائيلية ومقر المحكمة العليا الاسرائيلية، وهي جميعها في «القدس الغربية. بل والموقع الذي قرر نقل السفارة الامريكية اليه، يقع في «القدس الغربية.

موقف الرئيس الفلسطيني، الاخ ابو مازن، الذي قضى بوقف كل تعامل او تواصل رسمي مع ترامب وادارته، هو موقف حكيم، مبرر ومفهوم ومطلوب وضروري ايضا. لكن ربط هذا القرار الفلسطيني «بالغاء» ترامب لقراره، وتراجعه عنه، كان يمكن له ان يكون اكثر حكمة، لو اشترط اجراء تعديلات على ذلك القرار، اهمها التطرق الى موضوع «القدس الشرقية» والالتزام بحدود (او قل خطوط) الهدنة، للعام 1949.

للعدل المطلق قيمة عليا. لكن ليس في العالم، ولا على مدى التاريخ، تطبيق والتزام بعدل مطلق. ربما في «الحياة الأخرى»، اما في «الحياة الدنيا»، فإن العدل الممكن الوحيد، هو العدل الممكن المتوازن. عدل «لا يموت الذيب.. ولا يفنى الغنم». هذا هو العدل الذي يجدر بالفلسطينيين، وباليهود في اسرائيل ايضا، ان يسعوا لإحرازه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى