شؤون إسرائيلية

علي زبيدات يكتب – الأساس الاستعماري للنظام الصحي الإسرائيلي

علي زبيدات *-  3/11/2020

دأبت الحركة الصهيونيّة منذ بدايتها على تأسيس دولتها قبل قيامها باجتهاد؛ فسخّرت لهذه المهمّة جُل قدراتها وأموالها وعلاقاتها، كما بدأت مهامها في أرض فلسطين قبل عُقود من نكبِ شعب هذه البلاد وتهجيره إلى كل منافي الأرض؛ لإحلال وافدين آخرين مكانه.

وكان نشاط الحركة الصهيونيّة مُتفرّعًا على كل جبهات التأسيس، التعليميّ بإقامة المدارس والجامعات، والعماليّ بإقامة النقابات، والصحيّ بإقامة المشافي وصناديق المرضى وغيرها. يتمركز هذا المقال في محاولة لقراءة الواقع التاريخي لتأسيس المنظومة الصحيّة للمستعمرة الإسرائيليّة قبيل النكبة بإيجاز، إذ يسعى لتقديم لمحة تاريخيّة لأهم المحطات التأسيسيّة للجهاز منذ مرحلة العفويّة وحتّى بداية التنظيم الجِديّ والساعي لتحضير أرضيّة خصبة لإقامة دولة “إسرائيل” على أرض فلسطين.

حتّى بداية الاستعمار البريطاني لفلسطين عام 1917، كانت مهام الجهاز الصحي تقع على عاتق المؤسسات الدينيّة والخيريّة، والتي قامت بدورها بتقديم الخدمات الصحيّة ضمن نشاطاتها التبشيريّة. أمّا الدولة العثمانية، فقد كان اهتمامها في هذا المجال شحيحًا؛ لانشغالها في الجهود الأخيرة لمحاولة الإبقاء على الإمبراطوريّة التي تشهد نهايتها.

في تلك الأثناء، دُولٌ أوروبيّة عديدة ومؤسسات صحيّة مسيحيّة أقامت مؤسسات لعلاج المرضى، للاهتمام بشؤون جالياتها ووضع قدمٍ لها كجزء من مشروع سياسي مُستقبلي، فكانت على سبيل المثال البعثة البريطانية (1845)، ومن ثمّ عددٌ من المشافي، منها: الفرنسي والألماني والإيطالي والأسكتلندي، إذ تمركزت هذه المؤسسات أساسًا في القدس، وفي نسب أقل في يافا وحيفا والناصرة وصفد وطبريا.

في هذا الجو السياسي المُحيق بالمنطقة، والانتشار الخبيث للوجود الأوروبي، بادرت عائلة روتشيلد لتمويل وإقامة أول مشفى يهودي في القدس العتيقة عام 1854، ليكون جزءًا من الدعم الاقتصادي لليشوف اليهودي. هذه المساعدة تضمنت أيضًا المساعدات الطبية لفلاحي المستوطنات اليهودية الزراعية التي توطنت بعد أول موجة قدوم يهودي مُنظّم للبلاد. كما تم تأسيس مراكز صحيّة عديدة في تلك الفترة مثل: “مسجاف لديرخ” 1871، “عزرات نشيم” 1895 المُختص بشؤون النساء، “شعاري تسيدك” 1902. وكذلك مشفى في يافا عام 1891، طبريا1897، وصفد 1897. إلّا أن القفزة النوعيّة الحقيقيّة للمنظومة الصحيّة الصهيونيّة كانت مع بداية الاستعمار البريطاني للبلاد.

مع بداية القرن العشرين، وصل تعداد المستوطنين اليهود إلى ما يُقدّر بـ 50 ألف مُستوطن، أمّا عدد الأطباء حتى عام 1912 فلم يتجاوز 32 طبيبًا. في عام 1913، بدأ تنظيم الأطباء اليهود في القدس ضمن ما أسموه “نقابة الأطباء الناطقين بالعبريّة”، بالإضافة لنقابات شبيهة في المستوطنات المختلفة، اندمجت جميعها في إطار واحد بعد الحرب العالميّة الأولى ضمن “تنظيم الأطباء العبري” والذي تحوّل هو نفسه لاحقًا بعد النكبة إلى “تنظيم الأطباء في إسرائيل”. (1)

أمّا ما يستحق التوقف عنده، فعند البحث في بروتوكولات ومُكاتبات التنظيم، نجدّ أنّه لم يكن يتعامل مع نفسه كتنظيم عماليّ مهمته تقديم العون الطبي لأعضائه وحسب، وإنما كتنظيمٍ مهنيّ مع أهدافٍ علميّة وتطلعات للتأثير على مستوى الحياة وتطوير الخدمات الطبيّة لدى المُستوطنين اليهود في أرض فلسطين. (2)

خلال الحرب العالميّة الأولى وكجزء من الحالة العالميّة، تضرر القطاع الصحي الصهيوني في البلاد، مما ساهم بسطوع نجم مبادرة “الاتحاد الصهيوني” في الولايات المُتحدة، إذ تم إرسال بعثة من الأطباء والمهنيين في المجال عام 1918، وتمت إقامة “مجموعة المساعدة الطبيّة” بدعم من صهاينة الولايات المُتحدة، وهو ما أدى لتطوّر نوعي في الجهاز الصحي اليهودي في البلاد.

ومن هذه المُبادرات، التنظيم النسائي “هداسا” الذي بدأ بمجموعة من المُتطوعات في الولايات المُتحدة بقيادة “هنريتا زولد” –شاركت لاحقًا بتأسيس حزب إيهود وهو حزب صهيوني تأسس في فترة الانتداب البريطاني-، وكان هدف التنظيم الرئيسي تقديم المُساعدة في تنشيط وتفعيل الخدمات الصحية داخل المستوطنات. كانت بداية هذا الدعم بالعمل في مجالات صحة المُجتمع، ومن ثمّ في تقديم خدمات التطعيم للأطفال، وفي الوقاية والعلاج من الأمراض التلوثيّة والأوبئة وكان منها السلّ وسعفة الرأس وغيرها.

وفي مرحلة مُتقدّمة، عملت على إدارة وتأسيس المشافي المُتطوّرة، خاصّة بعد أن قامت عائلة روتشيلد بتحويل مُلكية المشفى الذي بحوزتها للتنظيم عام 1918، لتقوم بعدها بتأسيس مشافي في كل المراكز المدينيّة للمستوطنات اليهوديّة في ذات الفترة، وعلى وجه الخصوص في يافا وحيفا وطبريا وصفد. هذا ويذكر أنّ التنظيم في حينه نجح بتجنيد ميزانيّة قدرها 2.5 مليون دولار قام بواسطتها بشراء أول سيارتي إسعاف إضافةً للعديد من المعدات الطبيّة اللازمة. (3)

وفي سنوات العشرين من القرن الماضي، توسّعت نشاطات المُنظّمة وامتدت أذرعها لبناء العيادات والصيدليّات أيضًا، وقامت بدور نوعي في تقديم العلاج والمناعة للكثير من الأمراض، وبشكل خاص الملاريا، وفي تقديم الدعم والمشورة في عيادات الأم والطفل، لتتحوّل هداسا للجسم الصحي التأسيسي المُهيمن في البلاد.

دأب تنظيم هداسا منذ البداية على تطوير البنيّة التحتيّة الرئيسيّة للخدمات الصحيّة، ليسهّل عليها نقل مُلكيتها للمستوطنات المحليّة. وهذا ما حصل فعلًا، إذ قام التنظيم بتسليم المراكز الصحيّة تباعًا، خاصّةً بعد الأزمة الاقتصاديّة التي حلّت على الولايات المُتحدة في سنوات الثلاثين، مما سرّع في عملية نقل المسؤوليات والمُمتلكات. وفي عام 1931، سلّمت مشفى حيفا للجنة الجمهور العبري في المدينة، أمّا في التجمعات الزراعيّة فقد ساهمت بتأسيس عيادات عُموميّة.

في حين تنامى المسار الثاني لتطوير الجهاز الصحي في منتصف عقد الثلاثينيّات، على أثر الحرب العالمية الثانية، والذي رافق أكبر موجات القدوم اليهودي للبلاد في حينه التي قدمت من مناطق وسط أوروبا، مردوفةً بكم كبير من الأطباء خاصّةً من ألمانيا، وهو ما طوّر الجهاز بشكل كبير وساهم في تطوير النظام الصحي.

يُذكر مثلًا أنّ مجموعة من قدامى الأطباء بقيادة الطبيب “هاري هلر” قامت بتأسيس مشفى أسوتا، والذي كان يُعدّ من أعلى المشافي جودةً في المنطقة قاطبةً، ويُلحظ تطوره من جميع النواحي: المبنى، والمُعدّات، وفي مستوى الأطباء الذين عملوا فيه. (1)

وقد كان التطوّر الأهم، إذ تمّ عام 1939 مع تطوير المشفى الجامعي “هداسا عين كارم” في جبل المشارف في القدس، والذي أصبح المركز الطبي والبحثي الأوّل قبل قيام دولة “إسرائيل”. ومع انتقاله للمبنى الحديث، بات يتسع ل 270 سريرٍ مقابل 130 في الماضي، كما تم توسيع المختبرات ومراكز الأبحاث، وخُلقت البنية التحتيّة الرئيسيّة للبحث والتدريس.

ويُذكر في هذا السياق، أنّ أول مدرسة لتدريس التمريض تمت إقامتها في يافا منذ عام 1918، والتي كانت أوّل مدرسة فوق ثانويّة للنساء في البلاد، ومن ثمّ مدرسة أخرى في القدس قبل افتتاح الجامعة العبرية بسبع سنوات.

صناديق المرضى

عام 1911، وضع القيادي الصهيوني في التنظيمات العماليّة “بيرل كيتسنلسون” المخططات الأولى لإقامة أول صندوق مرضى، والذي تمت تسميته “كوبات حوليم كلاليت”، أي صندوق المرضى العام. والذي كان الهدف الرئيسي من إقامته هو تقديم الخدمات الصحيّة لليهود القادمين ضمن موجة القدوم الثانية للبلاد. والصندوق تمت إقامته ضمن منظومة “عمال لأجل العمال” وفق العقيدة الأيديلوجيّة الصهيونية الاشتراكية، والتي كانت تحث على المُساعدة والدعم بين اليهود. وكان الصندوق يُلزم أعضاءه بتقديم المُساعدة الواحد للآخر.

وعلى الرغم من عدد المُنتسبين القليل في تلك الفترة إلّا أنّ صندوق المرضى انقسم لصندوقين على أثر الصراع السياسي بين التيارات الصهيونيّة المؤسِسَة، الأول تابع لتيار “أحدوت هعفودا”، والثاني “هبوعيل هتسعير”. وما لبث إلّا أنّ عاد وتوحّد في ديسمبر 1920 بعد تأسيس نقابة العمال اليهود المُسماة “الهستدروت”، وتم إطلاق اسم “صندوق المرضى للعمال العبريين في البلاد” عليه. وهكذا تحوّلت لأهم جسم يُقدّم الخدمات الصحيّة للمستوطنات اليهوديّة في البلاد. يُذكرُ أن عمل الصندوق كان على النمط “البسماركي” الألماني الذي كان رائجًا في ألمانيا وهولندا والنمسا آنذاك.

ويظهر أنّ النقلة النوعيّة الأكبر في تاريخ صندوق المرضى العام كانت لحظة ربطه بشكل مباشر مع نقابة العمال، بحيث تم توحيد رسوم الاشتراك بينهما عام 1937 بعد أن نجح الصندوق في الانتشار في العديد من الأماكن التي تتوزع فيها المُستوطنات، وبلغ عدد مُنتسبيه حتى عام 1929 ما يُقارب 15 ألف مُنتسب، وقد سُمي الرسوم بـ : “الرسوم المُشترك”. وبهذا بات لزامًا على كل أعضاء نقابة العمال أن يكونوا أعضاءً في صندوق المرضى العام والعكس. وقد استمرت هذه العلاقة حتى عام 1995 مع صدور قانون التأمين الصحي الذي أقرّه الكنيست. وقد ساهم هذا الربط بزيادة عدد المُنتسبين لصندوق المرضى، وبالتالي مدخوله المالي من جهة، وبتقليل هيمنته على المقدّرات المالية من جهة أخرى.

وبفعل الصراعات السياسيّة اللاحقة والتنافس بين التيارات الصهيونية الناشئة على أرض فلسطين الذي يصعب تفصيلها في هذا المقال، تم تأسيس صناديق مرضى أخرى ظلّت أقل نفوذًا وأهميّة من صندوق المرضى العام، وكان منها: صندوق المرضى الوطني، صندوق المرضى الشعبي وصندوق مرضى الصهاينة.

أمّا الأكثر لفتًا للنظر فهي أرقام الانتسابات لصناديق المرضى حتى عام 1948، فقد كان لدى صندوق المرضى العام 140 ألف مُنتسب، ومع عائلات المُنتسبين يصل العدد لِ 325 ألف شخص، كما كان عدد الانتسابات لمُجمل صناديق المرضى يصل لـ 165001 مُنتسب ومع عائلتهم يصل الرقم لـ 401791 شخص.

للتلخيص: يُمكن إطلاق تسمية “النظام الصحي” على النظام الصحي الإسرائيلي منذ بداية الاستعمار البريطاني للبلاد، وقد سبق ذلك نشاط عدد من المجموعات الدينيّة والتطوعيّة دون تنسيق مُشترك فيما بينها. في فترة الاستعمار البريطاني تطورت المنظومة الصحيّة وبنيتها التحتيّة وخدماتها الجماهيريّة كعيادات رعاية الأم والطفل وسواها.

تذكر المصادر جميعها أنّ جيل “بن جوريون” فشل في إقامة نظام صحي سيادي بعد مرحلة التأسيس عام 1948، لأنّه اصطدم بنظام صحي شديد التنظيم والجهوزيّة، وكان ذلك بشكل أساسي بسبب تعنّت صناديق المرضى ونقابة العمال “الهستدروت”، الذين نجحوا في الحفاظ على المنظومة ومبناها ومراكز القوى فيها بأيديهم. وبهذا انتصر المبنى التعددي في المنظومة الصحيّة الذي مازال مُستمرًا حتّى يومنا هذا، وإن كان بدرجة أقل عمّا سبق، ليصل كل باحث في الموضوع لنتيجة حتميّة مفادها أنّ تطور الجهاز الصحي النوعي الذي بدأ في عشرينيّات القرن الماضي، نجح في تشكيل شكل وطُرق تنظيم هذه المنظومة في “إسرائيل” حتّى أيامنا هذه.

*علي زبيدات – ناشط طلابي وطالب لغة عربية وآداب وتدريس في جامعة حيفا، وممثل الطلاب العرب في نفس الجامعة.

المصادر :

(1) “سبأ للأبحاث”: https://bit.ly/37q9CP3

(2) “الجمعية الطبية الإسرائيلية”: https://bit.ly/37vqOmi

(3) “يديعوت أحرونوت”: https://bit.ly/3kkMFAq

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى