شؤون إسرائيلية

عصمت منصور يكتب – قسم التحقيقات مع الشرطة الإسرائيلية “ماحش”.. أداة لغسل جرائم الشرطة؟

عصمت منصور *- 9/11/2020

لم تكن ديانا الحلاق تريد عزاء في وفاة شقيقها الشهيد إياد الحلاق، المصاب بالتوحد، والذي قتل برصاصتين أطلقتا على جسده مباشرة وهو في طريقه إلى المؤسسة التعليمية الخاصة التي كان يدرس فيها برفقة معلمته ورود التي صرخت بين الرصاصتين متوسلة وشارحة أنه من ذوي الاحتياجات الخاصة، لمجرد الاشتباه به بأنه مخرب مسلح من قبل حرس الحدود الإسرائيلي، قرب باب الأسباط في القدس المحتلة في 30 أيار من العام الحالي، سوى بأن تتم محاسبة القتلة من قبل الجهات المختصة، وتقديمهم لمحاكمة عادلة على ما اقترفوه من جرم أدى إلى مقتل إنسان مسالم دون ذنب، لمجرد الاشتباه.

الجهة التي يفترض أن تحقق مع الشرطة القتلة، وأن تضمن عدم تكرارهم لمثل هذا النوع من الجرائم، هي قسم داخلي يتبع للنيابة العامة في إسرائيل ويطلق عليه اسم “ماحش” وهو الأحرف الأولى التي تختصر الكلمات “قسم التحقيقات مع الشرطة” وهو قسم تأسس في العام 1992 مهمته التحقيق في مخالفات جنائية يرتكبها رجال الشرطة وحرس الحدود وجهاز الأمن العام- الشاباك، في أثناء تأديتهم مهامهم واحتكاكهم اليومي مع الجمهور.

ما قبل تأسيس وحدة “ماحش”، من قبل وزير العدل السابق دان مريدور، كانت الشرطة الإسرائيلية تتولى عملية التحقيق مع أفرادها والبت في الشكاوى المقدمة ضدهم، وهو ما يعني ترك مهمة محاسبة الشرطة بيد الشرطة نفسها دون وجود أي رقابة جدية خارجية، وهو الأمر الذي قاد إلى انتقادات متكررة وتشكيك بشفافية ومصداقية الإجراءات المتبعة من قبل شرطة تحقق مع نفسها.

تاريخ من الأخطاء

يمكن تلخيص مسيرة قسم/وحدة “ماحش” بالجملة التي نطقت بها شقيقة الحلاق عندما قالت للصحافيين بأسى ويأس: “إنَّ الشرطي الذي فعل ذلك لن يحصل على ما يستحقه، يجب سجنه. لكنني أعلم بأنهم لن يفعلوا شيئا بحقه؛ لن يفعلوا شيئا لأن إياد فلسطيني”، أو كما يمكننا أن نضيف لأنه ينتمي لأقلية عرقية أو إثنية مختلفة، كأن يكون أثيوبيا أو بملامح شرقية، ومن الفئات الأكثر عرضة لعنف الشرطة وتجاوزاتها ولواحدة من جرائم الكراهية التي تشتهر بها الشرطة الإسرائيلية، حيث أظهر مركز التحقيقات التابع للكنيست في بحث أعده في العام 2016 أن نسبة الشكاوى المقدمة لقسم “ماحش” من يهود من أصول أثيوبية هي الأعلى مقارنة بنسبتهم في المجتمع وأن 35% من هذه الشكاوى تم وقف التحقيق فيها دون استكمالها بذرائع مختلفة، و31% اعتبرت أنها لا تخضع لصلاحية القسم.

المجتمع العربي يندرج ضمن الفئات الأكثر عرضة لتعسف أفراد الشرطة وتجاوزاتها، إن كأفراد أو كجماعات، حيث بين المركز للاستراتيجيات الصهيونية في تقرير أعده في العام 2018 لخص فيه توصيات لجنة أور التي تم تشكيلها لفحص سلوك الشرطة تجاه المواطنين العرب في هبة أكتوبر في العام 2000، أن الشرطة “تتعامل مع المواطنين العرب على أنهم عدوِ” ولا تطبق القانون بشكل متساو، وتجري اعتقالات دون لوائح اتهام ومن منطلق الشك المسبق، وأن من بين الشكاوى التي تقدم ضد ممارسات أفراد الشرطة التعسفية “عدد محدود جدا فقط يصل إلى مرحلة تقديم لائحة اتهام”.

وأكد تقرير منظمة “يش دين” لحقوق الإنسان في العام 2019 أن علاج الشكاوى التي تتعلق بمخالفات ترتكب من قبل شرطة وجيش الاحتلال ضد الفلسطينيين “مليء بالعيوب والتي يعتبر جزء منها فرديا والجزء الأخر بنيويا مبدئيا”، معتبراً أن هناك “خللا لدى منظومة إنفاذ القانون في كل ما يتعلق بمحاسبة أفراد أجهزة الأمن المشتبه بارتكابهم مخالفات ضد فلسطينيين” وأن الكثير من الملفات “أغلقت بسبب فشل التحقيق أو عدم بذل جهد كاف وإحضار المتهمين” وأن المس بالفلسطينيين وممتلكاتهم “لا يستوفي التحقيق بالحد الأدنى ويتم إغلاق الملفات، بدعوى أنها لم تتمكن من التعرف على مرتكبي المخالفة، ولأن المحققين لا يقومون بجهد حقيقي لإيجاد الفاعلين، وأن هناك نقصا في أدوات التحقيق وشحا في الموارد ولا مهنية”.

هذه التقارير تتطابق مع تقرير النيابة العمومية الذي أفاد أن ثلث الشكاوى التي تقدم لقسم التحقيقات مع الشرطة يتم التحقيق فيها بشكل جدي وأن “نسبة بسيطة تم استنفاد الاجراءات القانونية فيها ضد الشرطة” وأنها من خلال تمثيلها لأشخاص تعرضوا للاعتداء من قبل الشرطة اكتشفت أن “معظم الشكاوى لا يتم استكمالها إما بقرار بعدم التحقيق أو بالاكتفاء بفحص أولي وأن نسبة منخفضة فقط تقدم فيها لوائح اتهام”.

بالعودة إلى قضية وظروف استشهاد إياد الحلاق، الذي وصفه بيان مكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان بأنه نتج عن “الاستخدام الروتيني للقوة المميتة من قبل قواتِ الأمن الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية”، متهما إسرائيل “بعدم الشفافية”؛ فإن سلوك “ماحش” يخلو من أي مفاجآت إيجابية، فقد أعلن قسم التحقيقات مع الشرطة “ماحش” في 21 تشرين الأول 2020 أنه يدرس إمكانية تقديم لائحة إتهام ضد الشرطي في حرس الحدود الإسرائيلي الذي أطلق النار على الحلاق، بتهمة “القتل باستخفاف” وفق ما نشره موقع “واللا” مع التوصية بإغلاق الملف ضد الضابط المسؤول عنه، حيث جاء في حيثيات القرار أنه “اتخذ بعد فحص الأدلة وظروف إطلاق النار” مع الاعتراف بأن الشهيد “لم يشكل أي خطر على أفراد الشرطة أو المواطنين في المكان، وأن الشرطي نفذ عملية إطلاق النار بخلاف الأوامر المتبعة” وهو ما يكرس الانطباع السائد لدى الجمهور العربي في الداخل، والذي خلص إليه تقرير مؤسسة “يش دين” الذي سبقت الإشارة اليه “بأن الجنود ورجال الشرطة يتمتعون بحصانة شبه كاملة من المثول أمام القضاء بسبب مخالفات ارتكبوها ضد الفلسطينيين وهذا ينطوي على رسالة مفادها: الاستخفاف بحياتهم وفشل منظومة التحقيق الداخلية”.

13 شهيداً وصفر لوائح اتهام

تعد هبة أكتوبر من العام 2000 من المحطات المفصلية التي تتجلى فيها بوضوح طبيعة العلاقة بين المؤسسة الإسرائيلية والجمهور اليهودي من جهة والجمهور العربي من جهة أخرى، حيث قامت قوات الشرطة بقمع المظاهرات التي انطلقت في القرى والبلدات العربية بعنف مستخدمة الرصاص الحي والقناصة بأوامر مباشرة من قادة الشرطة وهو ما أدى إلى استشهاد 13 شابا خلال أسبوع من المواجهات.

لجنة التحقيق التي شكلتها الحكومة برئاسة القاضي ثيودور أور حملت عدة شخصيات رسمية من السلطة مسؤوليات شخصية بسبب “فشل السلطات الإسرائيلية في التعامل بالطريقة الصحيحة في فترة شديدة الحساسية، إضافة إلى ردة الفعل المبالغة واستعمال القوة”، كما انتقدت اللجنة استخدام “القناصين لقمع المظاهرات”.

مركز عدالة الحقوقي الذي رافق لجنة التحقيق وتابع تطبيق توصياتها، انتقد بشدة في تقرير نشره في العام 2005 تعقيبا على تقرير قسم التحقيقات مع الشرطة “ماحش” حول هبة أكتوبر هذا التقرير الذي لم يتضمن أي توصية بتقديم لائحة اتهام ضد أفراد أو ضباط الشرطة في أي من عمليات القتل الـ13، ووصفه بأنه “تبرير لاستخدام العنف ضد المواطنين العرب”، مشيراً إلى أن “ماحش” لم يستكمل التحقيق في أغلب الحالات، ولم يقم بفحص الأسلحة وملاءمتها لموقع الحادث، عدا عن أنه ألقى اللوم على عائلات الضحايا بذريعة “رفضهم إخراج جثامين أبنائهم من القبور لتشريحها”. وتم وصف تقرير “ماحش” بأنه “اتسم بالعدائية والانحياز المطلق لادعاءات الشرطة، وتصوير الأحداث على أنها حالة حرب لإضفاء الشرعية على عمليات القتل والتقاعس في الكشف عن الحقيقة”.

تقرير عدالة الذي انتقد بشدة ما جاء في تقرير “ماحش” عززه خبراء جنائيون وقانونيون اعتبروا أن الاستنتاجات التي تم التوصل إليها “غير معقولة وتتناقض بصورة جوهرية مع توصيات لجنة أور”.

المعلم “المخرب”!

أم الحيران قرية بدوية تعتبر واحدة من 46 قرية وتجمعا غير معترف بها من قبل السلطات في إسرائيل، وأم الحيران الحالية هي نسخة ثانية عن قرية أم الحيران الأصلية التي هجر سكانها في العام 48 وأصبحت تسمى كيبوتس شوفال، ليعاد تأسيسها في العام 1956 ونقل سكانها من قرية اللقية إلى المكان المتواجدة فيه الآن.

يسكن في قرية أم الحيران نحو ألف شخص لا يتمتعون بالحد الأدنى من الخدمات الحكومية الأساسية من عائلة أبو القيعان، من بينهم معلم الرياضيات يعقوب أبو القيعان، الذي قتل في العام 2017 على يد شرطة الاحتلال أثناء تنفيذها محاولة هدم لمنازل القرية.

اتهمت الشرطة الإسرائيلية أبو القيعان (47 عاما) بأنه كان ينوي تنفيذ عملية دهس، مشيرة في تقاريرها التي وزعتها على الإعلام ومن خلال تصريحات قادتها إلى أنه “مخرب متأثر بجماعة داعش الإرهابية” وهو ما اتضح أنه غير صحيح من خلال التحقيقات التي أجراها “ماحش” لتتم في النهاية تبرئته وتقديم اعتذار من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو عن قتله.

نشرت صحيفة “هآرتس” تقريرا حول ملابسات قتل الشهيد أبو القيعان وصفت فيه ملابسات استشهاده والتي تشير بكل وضوح إلى قتله بشكل متعمد و”إنزاله من السيارة وهو مصاب وتركه ينزف حتى الموت دون تقديم أي مساعدة طبية ومحاولة إنقاذ حياته” ومع ذلك لم يوص قسم “ماحش” بتقديم لائحة اتهام ضد الشرطة، لا على اطلاق النارِ، ولا بسبب تركه ملقى على الأرض لينزف حتى الموت رغم إحاطة الشرطة به ووجود طاقم طبي في المكان، وبدل ذلك أوصى “بإغلاق ملف التحقيق، وعدم تقديم أي فرد من الشرطة للمحاكمة” وهو القرار الذي تبناه النائب العام السابق في إسرائيل، شاي نيتسان، ليتم إغلاق ملف التحقيق، حيث زعمت النيابة العامة أنه “بعد الاطلاع على ملف ونتائج التحقيق من “ماحش” تقرر أنه لا شبهات جنائية خلف مقتل أبو القيعان، وأن ما جرى كان نابعا، على ما يبدو، من الشعور بالخطر”.

إلى جانب استشهاد أبو القيعان أصيب في أحداث أم الحيران خمسة أشخاص بجراح مختلفة، بينهم عضو الكنيست ورئيس القائمة المشتركة أيمن عودة الذي أصيب برصاصة اسفنجية في الرأس.

موقع عرب 48 قال في تقرير نشره في 23/10/2019 حول إصابة عودة أن “الصور التي التقطتها الصحافية كيرن منور، تظهر أنه تم تصويب ضوء الليزر من أحد أسلحة أفراد الشرطة، باتجاه النائب عودة، وأن بقعة ضوء خضراء كانت موجهة على جبين النائب عودة، قبل أن يتم إطلاق رصاصة إسفنجية مصوبة على جبينه ومن ثم على ظهره”.

عضو الكنيست أيمن عودة قال في بيان صدر عنه إنه “رغم وصول الصور كافة إلى قسم التحقيقات مع الشرطة (ماحش) إلا أن الأخير أغلق ملف التحقيق بحق أفراد الشرطة”.

موقع (سيحاه مكوميت) قال إن “ماحش” لم يفحص بعمق مقاطع الفيديو التي جمعها بنفسه في أم الحيران، ولم يحقق مع الشرطة حول بقعة الليزر التي صوبت نحو رأس عودة، مصنفاً تقرير “ماحش” على أنه “خلل وتجاوز جنائي خطير” وأنه وفق رأي الدكتور الخبير في الطب الجنائي أريئيل لينيه، والذي أعد تقريرا مفصلا للجنة ضد التعذيب، فإن عدم فحص الفيديوهات والصور التي تظهر فيها بقعة الليزر الخضراء أشبه “بعدم فحص بصمات على سكين موجودة في مكان الجريمة” وهو ما دفعه إلى المطالبة بفتح التحقيق مجددا في القضية.

إصلاحات في “ماحش”

أعلن وزير العدل الإسرائيلي آفي نيسانكورن (“أزرق أبيض”) مؤخراً عن نيته إدخال إصلاحات جذرية في طريقة عمل قسم التحقيقات مع الشرطة، وذلك على ضوء تزايد الانتقادات لأدائه والخلل الذي يشوب عمله وتضارب المصالح بين أفراده وقادة الشرطة الذين قد يجدون أنفسهم بحاجة لهم لنيل ترقياتهم وتقدمهم في الوظيفة العمومية، بالإضافة إلى إغلاق الكثير من الملفات بسبب غياب الرقابة الخارجية وعدم وجود تحقيق مستقل وغياب الإرادة والمبادرة في ملاحقة الشرطة، وفق ما نشره المعهد الاسرائيلي للديمقراطية.

الإصلاحات المزمع إدخالها والتي تهدف إلى تحويل “ماحش” إلى جسم مدني بالكامل وتشكيل طواقم تحقيق من خارج سلك الشرطة وتقصير الجداول الزمنية في إعلان النتائج وتجنيد قوى عاملة ومراكز اتصال لشكاوى الجمهور…إلخ، وصفها المعهد الإسرائيلي للديمقراطية بأنها غير مضمونة وقد تتأثر بالصراع السياسي داخل الحكومة معتبرا أن المطلوب هو إحداث “ثورة داخل ماحش”.

إن التجاوزات التي ترتكبها الشرطة خاصة ضد الأقليات وفي المجتمع العربي تستدعي المحاسبة، وأن يكون هناك جهاز رقابي قضائي شفاف وموضوعي لردع الشرطة عن انتهاكاتها، ولكن بدل ذلك تثبت الممارسة أن المؤسسة الحاكمة دوما اصطفت خلف قسم “ماحش” لتبرر جرائم الشرطة وتجاوزات أفرادها، وهو ما أفرغ مهمة هذا القسم من مضمونها، وحوله إلى أداة لغسل جرائم الشرطة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى