عصمت منصور يكتب – “عقدة غزة” إسرائيلياً .. ما بين الماضي والحاضر
عصمت منصور *- 8/9/2020
لم يعد أحد يهتم بإحصاء العدد الدقيق للتفاهمات الجديدة بين حركة حماس وإسرائيل، التي أعلن عنها رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية من قطر قبل أيام، وكرر فيها إبداء إسرائيل استعدادها لتخفيف الحصار عن القطاع، وإدخال تسهيلات كانت تعهدت بتقديمها بعد عدوانها الأخير على القطاع في العام 2014، وبالمقابل تعهدت حماس بأن توقف أشكال المقاومة الجديدة التي لجأت إليها (البالونات الحارقة) بهدف الضغط على إسرائيل وجرها لتقديم تعهد جديد بتنفيذ ما سبق أن تعهدت به مرة بعد مرة، وهو ما يتكرر بشكل شبه حرفي عقب انتهاء كل جولة تصعيد جديدة.
بعيدا عن وصف هذه الآلية التي بقدر ما تبدو غير مجدية وساذجة، فإن تكرارها والإصرار على العودة إليها بنفس الشغف من قبل الطرفين والأمل بأن تصمد (لأطول فترة ممكنة) يجعلها الخيار الوحيد الممكن استراتيجيا، ليس لأنه الأفضل، بل ربما لأنه الخيار الذي يمنح الطرفين مزيدا من الوقت لتحسين – أو تخيّل إمكانية تحسين- الشروط الداخلية والخارجية على أمل أن يجدا الأدوات اللازمة لكسر هذه المعادلة، والانتقال إلى حل أكثر جذرية (ومتأخراً قدر الإمكان).
الحل الجذري المتخيل المتمثل في التخلص من عبء غزة إسرائيليا، والخلاص من الاحتلال الإسرائيلي للقطاع فلسطينيا، غير ممكن الآن، كما لم يستطع نصف قرن من الصراع حولت فيه إسرائيل قطاع غزة إلى حقل التجارب الأطول في التاريخ بعد أن جربت كل الحلول الممكنة (سوى الحل المطلوب)، وهو ما يبقي خيار إدارة الصراع على نار هادئة مرة وحامية مرات، الخيار الأمثل أو الأقل كلفة سياسيا وأمنيا.
البداية
عشية احتلاله، وصف وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان الذي تولى عملية الاحتلال، قطاع غزة بأنه المكان “الذي سيجر إسرائيل إلى الموت”، في نبوءة استوحاها من أسطورة شمشون الجبار الذي ذكر أركان جيشه بأن غزة هي التي “استنزفت قوته”.
بعد يومين من احتلالها عقد ديان مشاورات أمنية، ألمح فيها إلى رغبته بأن يقدم عرضاً لإسرائيل حول مستقبل غزة، وأن لا تعلن هي سياسة خاصة تجاهها، وهذا طرح عكس الأصوات التي عبرت من داخل الجيش عن عدم الرغبة في الاحتفاظ بها.
حكومة الاحتلال شكلت عقب الاحتلال لجنة وزارية أمنية لبحث ما بات يعرف بـ”مستقبل المناطق” وهي الأراضي التي احتلتها في حرب 1967.
وإذا كان مستقبل الجولان (في ذلك الوقت) وسيناء واضحين ومرتبطينبترتيبات أمنية واتفاقيات سلام تقرر عرضها على مصر وسورية، فإن مستقبل القطاع كان غامضا وغير واضح.
ديان أيّد أمام اللجنة الوزارية ضم القطاع لإسرائيل واعتباره جزءا عضويا منها، ولكن ليس قبل أن يتم تأهيل اللاجئين الذين هاجروا إليه، والتأهيل المقصود هنا هو إعادة توطينهم خارج القطاع في منطقة العريش وسيناء.
يغئال ألون أكمل مهمة ديان بعد أشهر من طرحها، وقدّم تصورا شاملا لمستقبل المناطق المحتلة حمل اسمه وبات إحدى المرجعيات الأساسية في فهم توجهات إسرائيل الاستراتيجية تجاه المناطق المحتلة.
فيما يخص قطاع غزة، اقترح ألون أن يتم ضم القطاع إلى إسرائيل واعتباره جزءا عضويا من الدولة ولكن ليس قبل إفراغه من اللاجئين، لذا اقترح أن يفرض عليه حكم عسكري إلى أن يتم إفراغه وتأهيله للضم الكامل لإسرائيل.
لقد آمن ألون وفق الوثائق التي نشرتها صحيفة هآرتس، بأن العالم سيسارع للمساهمة في إعادة تأهيل اللاجئين الذين يعيشون حياة بؤس وفاقة منذ النكبة، وأن مهمة نقلهم إلى العريش ستكون سهلة، إلى أن اصطدم بلامبالاة العالم وهو ما دفعه إلى تخيير حكومة ليفي إشكول بين العمل بشكل منفرد وحل الأزمة المتمثلة بوجود 400 ألف لاجئ في القطاع، أو التخلي عن غزة.
ترانسفير طوعي
الترجمة العملية لأفكار ألون والتي ختمها بنصيحته المختصرة التي دعا فيها الوزراء إلى “تشجيع السكان على الهجرة عبر البحر”، تم تبنيها عبر الخطة السرية التي أعدها جهاز الموساد الإسرائيلي وأشرف على تنفيذها بعد عامين من احتلال القطاع والتي تهدف إلى إفراغ القطاع وتأهيله ليكون جزءا من إسرائيل.
نضجت الخطة التي أطلق عليها اسم خطة (براغواي) في مكتب رئيس الحكومة ليفي إشكول في العام 1969 وهي خطة تم تفضيلها على أفكار أخرى تم بحثها في تلك الفترة شبيهة بما يطرح اليوم مثل إنشاء مصانع وتحسين حياة السكان ومنحهم حرية حركة وعمل داخل إسرائيل.
قدم إشكول للجنة التي أصبح اسمها “كابينيت المناطق” خطته التي تقضي بتشجيع الترانسفير الطوعي لحوالي 60 ألف لاجئ من مخيمات القطاع. ومحاضر اجتماعات اللجنة التي شارك فيها رئيس الموساد والمكلف بتنفيذ الخطة تسفي زامير، أظهرت أن الموساد استطاع أن يتوصل إلى اتفاق مع حكومة براغواي وقعه نيابة عن إسرائيل قنصلها هناك ينص على قبول براغواي باستقبال اللاجئين (من غير الشيوعيين) على أن تؤمّن إسرائيل تكاليف سفرهم وتأمين مبلغ 350 ألف دولار لإعالتهم. وصندوق أراضي إسرائيل كان اشترى الأراضي التي سيقيم عليها اللاجئون مجتمعهم الجديد ليس في براغواي فقط بل وفي ليبيا لتوسيع دائرة الهجرة من القطاع.
فشلت الخطة بسبب عدم تجاوب أهالي القطاع معها وقيام شخصين من القلة الذين تم ترحيلهم بإطلاق النار على سفارة إسرائيل في براغواي احتجاجا على ظروف حياتهم.
لم يثن فشل الخطة الذريع رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو بعد نصف قرن بالتمام والكمال عن إعادة المحاولة حيث سرب مكتبه لوسائل الاعلام في أثناء قيامه بجولة في أوكرانيا أن حكومة إسرائيل تعمل على تهجير “طوعي” لسكان القطاع وأنها استعدت لفتح مطار في الجنوب لهذه الغاية إلى جانب توجهها لدول في الشرق الأوسط وأماكن أخرى في العالم من أجل استيعاب المهاجرين الجدد.
رغم حماسة أييلت شاكيد وزيرة العدل السابقة في حكومة نتنياهو وتأييد النائب بتسلئيل سموتريتش وأقطاب اليمين للخطة التي وصفها الصحافي المختص في قضايا القطاع شلومي الدار بأنها أكثر الخطط سذاجة وهزلية لأنها في حال نجاحها ستؤدي في أحسن الأحوال إلى هجرة عدد من المقتدرين ماديا وبقاء فقراء غزة الأمر الذي سيفاقم الأزمة، إلا أن إسرائيل لم تتلق أي رد من هذه الدول في العام 2019 ليكون مصير خطة نتنياهو شبيها بمصير سابقتها التي أعدها إشكول وغولدا مائير وزامير، ليعود القطاع إلى كونه أحد العقد غير القابلة للحل في وجه إسرائيل.
مرحلة الاستيطان والإخلاء
تأخر البناء الاستيطاني في غزة إلى نهاية العام 1970 حيث أقر بناء مستوطنتي كفار داروم ونيتسريم بعد أن استنفدت كل الخيارات التي كانت تحاول إيجاد آلية مناسبة كفيلة بإخلاء القطاع من اللاجئين من خلال الترانسفير الطوعي أو نقلهم إلى العريش أو كما اتضح لاحقا من خلال العرض الذي تم تقديمه للأردن لتولي المسؤولية عن مدينة غزة ومخيمات اللاجئين.
دفع الفشل في التوصل إلى واحد من هذه الحلول إسرائيل إلى التوجه نحو البناء في القطاع وهو الأمر الذي زاد من حدة الاحتكاك وفاقم المشكلة الأمنية وقاد إلى واحدة من أشرس الحملات الأمنية التي استهدفت القطاع برئاسة أريئيل شارون.
تعتبر فترة السبعينيات في أدبيات أجهزة الأمن الإسرائيلي كفترة اشتداد عود المقاومة في القطاع إلى درجة وصفت فيها السيطرة الفعلية على الأرض لفصائل المنظمة. ويمكن اعتبار حملة شارون العسكرية على القطاع في بداية السبعينيات بأنها اللحظة التي حسم فيها خيار التعامل أمنيا مع القطاع وتفضيل اللجوء إلى القوة ومن ثم المزيد من القوة.
أعادت حملة شارون الهدوء النسبي الذي تبدد مرة أخرى في الانتفاضتين الأولى والثانية رغم وجود السلطة الفلسطينية في القطاع، وهو ما دفع شارون الذي سبق أن أعلن عند دخول السلطة إلى القطاع في العام 1994 في مقال نشره في صحيفة معاريف أن “التخلي عن غزة سيدفع الفصائل الارهابية للسيطرة عليها وهذا سيؤدي إلى جعل ميدان فلسطين يتحول إلى قاعدة لإطلاق الكاتيوشا على عسقلان”، إلى طرح خطة الانفصال عن القطاع وإخلائه من المستوطنات في العام 2005.
خلقت إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي من قطاع غزة والذي عرف بخطة الانفصال شرخا عميقا في إسرائيل دون أن يتكفل بحل المشكلة الأمنية والتهديد النابع من القطاع، بسبب إبقاء إسرائيل سيطرتها على معابر القطاع وتمسكها بإدارته عن بعد والسيطرة على مياهه وأجوائه وفرض حصار خانق عليه.
حققت خطة الانفصال لإسرائيل، وفق مركز أبحاث الأمن القومي، مكاسب آنية جعلتها تخلي مسؤوليتها المباشرة عن قرابة مليوني إنسان وتتخلص من أزمة ديموغرافية آخذة في التفاقم بالإضافة إلى إكساب عدوانها المتكرر على القطاع شرعية سياسية أمام العالم من خلال وضع حد فاصل أو ما يشبه الحدود بين غزة و”بيننا”.
وجد نتنياهو الذي صوت مرغما على خطة الانفصال أمام تهديد شارون له وتخييره بين وزارة المالية التي كان يقودها وتأييد الخطة، في الواقع الجديد فرصة لإضافة عامل آخر جديد يمكن أن يحسب على إنجازات خطة الانفصال وهو الإبقاء على حالة الانقسام الفلسطيني والسماح ببقاء حكم حماس الذي انقلب على السلطة الفلسطينية، وبالتالي التهرب من الاستحقاقات السياسية التي يطالبه بها العالم تجاه حل القضية الفلسطينية والعودة للمفاوضات.
ووصفت مديرة حركة “السلام الآن” شاكيد مورج سلوك نتنياهو برفضه اتفاقات المصالحة ومحاولات رأب الصدع بين فتح وحماس وضغطه المتواصل على زعماء العالم ومن خلال إجراءات عقابية ضد السلطة على الأرض من أجل إفشالها وإدارته حوارا غير مباشر مع حماس، على أنه سلوك يهدف إلى الإبقاء على الانفصال بين الضفة وغزة وإضعاف السلطة بدعوى أنها لا تمثل الفلسطينيين جميعا من أجل إحكام سيطرته على الضفة.
خيارات أحلاها مر!
إن الأمر الواقع الذي نشأ في القطاع فاقم من حدة بروز الأزمة إذ تحولت غزة المحاصرة إسرائيليا والمهدمة بفعل الحروب وجولات الصراع المتكررة إلى مركز ثقل فصائل المقاومة التي تراوح أساليب مقاومتها بين المسيرات الشعبية الحاشدة على الجدار إلى البالونات الحارقة والقذائف المحلية الصنع وصولا إلى الصواريخ التي تطال مركز إسرائيل ومرافقها الحيوية مثل مطار بن غوريون وموقع وزارة الدفاع وأحياء في القدس.
أوجد هذا الواقع الأمني إلى جانب عدم وجود إرادة سياسية لدى إسرائيل وتفضيل الحلول العسكرية، معادلة قيّدت يد إسرائيل وورطتها بشكل أكبر في شؤون غزة اليومية والحياتية التي أرادت أن تتهرب منها بالانفصال.
جعل الواقع الحالي المتشابك المتمثل بالوقوف في منطقة وسط دون حسم، مفضلة أن تحاول تحقيق أهداف متناقضة بذات الأدوات، إسرائيل تقف عاجزة ولا تملك سوى اللجوء للخيارات العسكرية التي قد تؤمن لها فترة أطول من الهدوء في أفضل الظروف.
يكمن الخيار الوحيد أمام إسرائيل والكفيل بحل أزمة القطاع في الحل السياسي والتوصل إلى اتفاق مع منظمة التحرير لمجمل القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين، وهو خيار غير ممكن بسبب سيطرة اليمين وتفشي أيديولوجيته الرافضة لهذا المبدأ وانكفاء أصحاب هذا الطرح إلى درجة الاضمحلال في الخارطة السياسية والحزبية في إسرائيل.
يبدو الحل العسكري الذي قد يقود إلى إعادة احتلال القطاع و”تطهيره من الإرهاب” والذي يتم التلويح به بين الفينة والأخرى من قبل نتنياهو وأقطاب اليمين وقادة حاليين وسابقين في الجيش، ممكنا في الظاهر، ولكن عدم اللجوء إليه حتى الآن واستبعاده في كل جولة صراع جديدة يدلل على حجم المخاطر الأمنية والسياسية التي ينطوي عليها.
وفي تقرير مفصل قدمته المستويات الأمنية للمجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر إبان العدوان في العام 2014 تم عرض فاتورة مغامرة محاولة إعادة احتلال غزة. وأشار التقرير الذي اكفهرت وجوه الوزراء لمجرد سماعه، إلى أن محاولة من هذا النوع ذات تكلفة سياسية قد تهدد اتفاقيات السلام مع دول مهمة مثل الأردن ومصر وتفجر حملة انتقادات شديدة لإسرائيل وإدانتها عالميا، وعدا عن ذلك فإن عدد القتلى من بين جنود الاحتلال سيصل إلى المئات مقابل آلاف الفلسطينيين الأبرياء الذين سيلقون حتفهم، إلى جانب وقوع جنود في أسر المقاومة. والعملية وفق التقرير ستستمر لسنوات خمس في أفضل الحالات من أجل ضمان “تطهير القطاع” وفرض سيطرة أمنية واستخباراتية شاملة خلالها ستشتد المواجهات في جبهة أخرى هي الضفة الغربية، وهو ما سيستنزف الجيش ويكلف الدولة 15 مليار شيكل إضافي.
ووصف رئيس جهاز الشاباك السابق آفي ديختر شكل المواجهات الحالية بين إسرائيل وحركات المقاومة بأنها مواجهات مرنة ومن الصعب تحديد مفهوم من هو المنتصر والمهزوم فيها، وهذا يعني أن أي درجة من العنف والقوة التدميرية يمكن استخدامها في مواجهة فصائل المقاومة في غزة كفيلة بأن تتبدد نتائجها بعد ساعة من انتهاء الحرب عندما يخرج شاب يحمل راية ويعلن أنه مستمر في القتال وهو الأمر الذي يجعل اللجوء إلى هذا الخيار أقل جاذبية.
عامل آخر لا يقل أهمية في ترجيح استبعاد الخيار العسكري هو سؤال “اليوم التالي” للاحتلال، ومن سيضبط القطاع؟ إذ سترفض السلطة أو أي طرف فلسطيني أن يأتي على ظهر دبابة إسرائيلية لاستلام مفتاح القطاع من يد ضابط إسرائيلي، ما يهدد بنشوء فوضى وتسلم تنظيمات صغيرة متطرفة لزمام الأمور وتفاقم الوضع أمنيا وإنسانيا.
وخيار عملية عسكرية واسعة أكبر من الجولات الحالية وأقل من احتلال القطاع هو خيار تم تجريبه في السابق ثلاث مرات على الأقل دون أن يقدم أي حل حقيقي للعقدة.
يجعل انعدام الأفق السياسي والتكلفة العالية والنتائج غير المضمونة للخيارات العسكرية بمستوياتها المختلفة، خيار إدارة الأزمة وكسب الوقت والتوصل إلى تفاهمات مؤقتة تحمل صبغة إنسانية بمثابة الخيار الوحيد المتاح أمام إسرائيل وهو ما يعني ترحيل الأزمة إلى أن يحدث تغير جذري لدى أحد الطرفين في المدى البعيد.
وخلاصة القول فإن نبوءة ديان التي رأت في غزة موتا لإسرائيل ما زالت كالشبح الذي يحوم فوق رأس متخذ القرار في إسرائيل ولن يتخلص منه بأمنية كالتي تمناها إسحق رابين بأن يبتلعها البحر، ولا بمراوغات نتنياهو الذي يحلم بفصلها عن الضفة وإفراغها، بل بوجود قائد شجاع يعترف بحقها في الحياة ويسلم بوجودها كما هي بكل ما تمثله من رموز وأحلام للفلسطينيين وكوابيس للإسرائيليين.