شوؤن دولية

عصمت منصور يكتب – “جي ستريت” وإعادة صياغة مفهوم “دعم إسرائيل” أميركياً !

عصمت منصور *- 1/2/2021

يعكس مقال السفير ألان بيكر والذي نشره مؤخراً في موقع “المركز المقدسي لقضايا الجمهور والدولة”، الجدل الكبير والمبدئي المثار حول نشاط ومواقف منظمة “جي ستريت” اليهودية الليبرالية الأميركية في أوساط يهود الولايات المتحدة، لدى اليمين الإسرائيلي وامتداداته البنيوية والأيديولوجية من جهة، والتيارات الليبرالية في أروقة المنظمات المناصرة لإسرائيل في الولايات المتحدة على اختلاف توجهاتها من جهة أخرى.

هذا الجدل يتمظهر بشكل أكثر إلحاحا- بالتزامن مع هيمنة اليمين في إسرائيل- حول مفهوم وتعريف أكثر تحديدا لمعنى وشكل “دعم إسرائيل”، وأي السياسات التي تصب في مصلحتها وضمان أمنها وديمومة هويتها (الديمقراطية اليهودية) على المدى البعيد، وما هو الموقف المطلوب إزاء الميل المطرد في سياسات حكومة إسرائيل نحو اليمين والفاشية، سواء فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية ومستقبل الأراضي المحتلة والاستيطان، أو فيما يتعلق بهوية الدولة ومنظومة الحكم الداخلية فيها.

يلخص بيكر -الذي شغل موقع مستشار قانوني، ومديرا عاما في وزارة الخارجية، ومن ثم سفيرا لإسرائيل في كندا، ولا يزال ضمن الطاقم الاستشاري في القضايا ذات الصلة بالمؤسسات الدولية والقانون الدولي- في مقاله المذكور حالة الازدراء وضيق الصدر التي يبديها اليمين في إسرائيل تجاه أي حركة أو منظمة يهودية تكسر القاعدة، وتحاول أن تتخذ موقفا نقديا تجاه سياسات الحكومة الإسرائيلية ورئيسها ب. نتنياهو، أو تقف على يسارها سياسيا وفي القضايا الراهنة والمتغيرات الإقليمية، بغض النظر عما تظهره هذه المنظمات من ولاء لإسرائيل كدولة ومشروع، أو ما تقدمه من مسوغات لمواقفها، وأنها هي لا غيرها من يشكل التجسيد الحقيقي والأكثر قابلية للاستجابة بشكل أعمق لمصالح ومستقبل دولة إسرائيل.

كسر هيمنة الخطاب الأحادي لـ”إيباك”

تأسست منظمة “جي ستريت” في العام 2007 في الولايات المتحدة الأميركية، وقدمت نفسها على أنها البديل الصهيوني الليبرالي عن اللوبي الصهيوني الأميركي المعروف بنفوذه الواسع “إيباك” والذي يتماهى مع أفكار ومشاريع اليمين دون أية رؤية نقدية.

سعت المنظمة الحديثة التأسيس إلى تنظيم الحالة السياسية لمؤيدي إسرائيل ومؤيدي السلام، من أجل ضمان “إسرائيل آمنة وديمقراطية ووطنا قوميا للشعب اليهودي”، كما جاء في تعريفها لنفسها، والذي شددت فيه على طابعها الصهيوني الذي يحرص على التلازم بين مصالح إسرائيل المتمثلة في صون هويتها كوطن قومي يهودي، وبين السلام الذي يقوم على أساس حل الدولتين وإنهاء الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وهو ما يمكن تحقيقه من خلال العمل في الساحة الأميركية وفي أوساط يهود الولايات المتحدة الذين تهيمن على أصواتهم وتحتكر قوة تأثيرهم منظمة “إيباك” بتوجهاتها اليمينية، وهو ما سيقود حتما إلى الإضرار بمصالح إسرائيل واليهود الأميركيين والولايات المتحدة على حد سواء.

أطلقت المنظمة منذ تأسيسها وعبر مؤتمراتها مواقف عكست هذه التوجهات التي تمسكت بحل الدولتين، كما أنها عارضت خطة الضم واستضافت في مؤتمرها في العام 2019 لأول مرة رئيس القائمة المشتركة أيمن عودة، إلى جانب ممثل عن السلطة الفلسطينية هو أمين سر اللجنة التنفيذية وكبير المفاوضين الفلسطينيين الراحل صائب عريقات، وشخصيات تعتبر راديكالية في السياسة الأميركية مثل مرشح الرئاسة الديمقراطي آنذاك بيرني ساندرز.

تجرأت المنظمة أيضا وطرحت لأول مرة مسألة المساعدات الأميركية السخية وغير المشروطة لإسرائيل على جدول الأعمال، وحولت هذه القضية الحساسة والمسلم بها إلى قضية مثار جدل في أوساط واسعة من الجمهور الديمقراطي، حيث دعت إلى ضرورة إنهاء سياسة “الشيك المفتوح” الذي تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل، واشتراط تلقي هذا الدعم بالتزام إسرائيلي بعملية السلام، وفق ما نشرته الكاتبة الإسرائيلية ميراف ليزشتاين في موقع “سيحاه مكوميت” ذي التوجهات اليسارية.

تحولت منظمة “جي ستريت”، وبرغم مواقفها المتناقضة مع توجهات حكومات اليمين التي قادها نتنياهو في العقد الأخير، إلى مجموعة ضغط مؤثرة وذات وزن في الولايات المتحدة، واستطاعت أن تستقطب إلى مؤتمراتها كبار المرشحين من الحزب الديمقراطي، حيث أعلنت في 2018 أنها دعمت 128 مرشحا فازوا جميعا في الانتخابات التشريعية الأميركية، وأنها قامت بتوزيع 5 ملايين دولار لدعم حملاتهم الانتخابية، وفق ما نشره موقع “متراس” باللغة العربية.

لائحة اتهام

رغم أن بيكر يقر بأن منظمة “جي ستريت” تنطلق من فرضية أن إسرائيل تعيش “تحت تهديد من قبل أعدائها، وأن من حقها الدفاع عن نفسها والعيش بسلام داخل حدود دولية معترف بها” إلا أنه يتهمها بالتناقض بين المبادئ التي تسطرها على الورق، وما بين دورها السياسي “المتطرف والمتماهي مع الرواية الفلسطينية والمتساوق مع منظمات تنتقد إسرائيل”.

يسرد بيكر في مقاله سلسلة طويلة من المواقف التي يعزز فيها اتهامه الذي يعيده ويكرره أكثر من مرة، وهو التماهي مع الرواية الفلسطينية بدءا من عدم مباركة وعدم التحمس لاتفاقيات التطبيع مع الدول العربية “التي رأت أنها تهمش القضية الفلسطينية”، ومرورا بمعارضة تقديم مساعدات للدول العربية الحليفة لإسرائيل في المنطقة، وصولا إلى تبني قرارات دولية معادية لإسرائيل والرواية الإسرائيلية في المحافل الدولية وخاصة قرار مجلس الأمن 2334 الذي يدين الاستيطان، والذي مرر في نهاية عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما وامتناع إدارته عن استخدام حق النقض (الفيتو) لإبطاله.

ويعتبر بيكر أن هذه المواقف “المعادية لإسرائيل” تشجع القيادة الفلسطينية والأوروبيين على التشدد في المفاوضات، وأنها ترمي إلى حسم نتائج المفاوضات بشكل مسبق وخاصة في القضايا الجوهرية مثل الحدود والاستيطان والقدس والأمن، بخلاف ما جاء في اتفاق أوسلو الذي نص “على أن هذه القضايا ستحسم من خلال المفاوضات الثنائية فقط” بموجب تعبيره.

ينتقل الكاتب بعد تفنيد الاتهامات المباشرة ضد منظمة “جي ستريت”، إلى موقعها الإلكتروني، والذي يصفه بأنه “مليء بالدعاية المعادية لإسرائيل وإدانة أحادية لممارسات الجيش” وإخراج هذه الممارسات “عن سياقها”، كما أن الموقع يعيد نشر التهم “غير الحقيقية” التي تدعي أن الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة يعيش تحت الاحتلال، وأنهم – أي الفلسطينيون- “لا يحصلون على اللقاح المضاد لفيروس كورونا بسبب إسرائيل” إلى جانب دعوة إسرائيل إلى الانسحاب من “معظم الأراضي المحتلة لصالح إقامة دولة فلسطينية، دون أن تدعو (المنظمة) إلى وقف التحريض ووقف دفع مخصصات الشهداء والأسرى والطلب من الفلسطينيين بتبني مطلب الاعتراف بيهودية الدولة”!

يصف بيكر هذه المواقف وتوصية المنظمة إدارة بايدن الجديدة بتبني موقف واضح ضد الاستيطان وإعادة فتح الممثلية الفلسطينية في واشنطن ودعم السلطة ماليا وإعادة النظر في تعريف اللاسامية، بأنه تضليل وتبن للدعاية الفلسطينية، وأنها تهدف إلى “فرض اتفاق على إسرائيل” وان هذا يضر بفرص المفاوضات، ويشجع توجهات السلطة الفلسطينية “الأحادية” خاصة من خلال دعم السلطة في توجهها للانضمام للمؤسسات الدولية كدولة عضو في “تجاهل للمكانة القانونية التي تحددت من خلال المفاوضات” وأن هذا كله مناف لاتفاق أوسلو، بحسب زعمه.

رغم الهجوم الكاسح الذي شنه السفير بيكر ضد منظمة “جي ستريت”، وهو ما يذكرنا بالهجوم والتشريعات التي واجهت بها حكومة اليمين في إسرائيل منظمات إسرائيلية حقوقية يسارية مثل الصندوق الجديد و”بتسيلم” وعدالة و”يش دين” وغيرها من المنظمات، وعلى الرغم من أهمية المواقف المعلنة التي تطلقها وكسرها لقواعد اللعبة القديمة، والدور المتزايد الذي بدأت تلعبه في الساحة الأميركية، وتحديها لنفوذ منظمة “إيباك” اليمينية، إلا أنها بقيت محط انتقاد من قبل منظمات وشخصيات ثقافية وعامة عربية وأميركية بسبب مواقفها التي لا ترقى إلى الحد الأدنى من شروط العدالة في حل القضية الفلسطينية.

فموقع “متراس” مثلاً، أفرد مقالاً مطولاً عن المنظمة اعتبر فيه أن ظهورها تزامن “مع توسّع الحركة الفلسطينيّة في الولايات المتّحدة، ومع تنامي الوعي عموماً حول أهميّة نبذ العنصريّة والعداء للعرب والمسلمين، ومع تصاعد تحالف ترامب- نتنياهو” وأن هذا الحضور القوي لم يعد يسوغ للـ”الصهاينة الليبراليين المواءمة بين صهيونيّتهم في المسألة الفلسطينيّة، وبين مواقفهم الديمقراطيّة في الشؤون الأميركيّة” وأن “جي ستريت” تريد”مواءمة الصّهيونية والليبرالية” وجعلها ممكنة، وأن موقفها من حل القضية الفلسطينية يستثني حق العودة بالإضافة إلى إصرارها على “يهودية وديمقراطية” إسرائيل وأن تبقى “ذات أغلبية سكانيّة يهوديّة”، وهو تبن “للخطاب الصّهيونيّ الكلاسيكيّ المؤمن بـ”التفوق” الديمغرافيّ لصالح أغلبية يهودية في إسرائيل”. وهناك أمثلة كثيرة أخرى تتماشى مع مثل هذا الموقف.

جبهة مضادة لليمين

ما بين لائحة الاتهام والهجوم الكاسح من قبل اليمين الإسرائيلي ضد منظمة “جي ستريت”، والتقليل من أهمية دورها وعدم جدية الفوارق بينها وبين المنظمات الصهيونية الأخرى من قبل مجموعات وشخصيات ثقافية وسياسية وحزبية عربية، فإنه لا يمكن تجاهل أهمية الجدل الذي أحدثته هذه المنظمة في الساحة الأميركية، وتسببها بهزّ كثير من المسلمات التي تكرست عبر عقود من التحالف الاستراتيجي والدعم الأميركي المطلق لإسرائيل، خاصة في ظل تنامي قوة التيار اليميني الفاشي في إسرائيل وتقويضه الممنهج لحل الدولتين وتنصله من العملية السياسية.\

ووفقاً لما تؤكده تحليلات إسرائيلية عديدة، فإن السياسة التي تبناها نتنياهو تجاه الساحة الداخلية الأميركية من خلال انحيازه العلني للرئيس ترامب ومعاداته قبلها للرئيس أوباما، وكسره للقاعدة التاريخية التي حكمت العلاقة بين واشنطن وتل أبيب والتي تعلي من شأن العلاقة بين البلدين فوق الخلافات الحزبية، جعلا وجود منظمة مثل “جي ستريت” بمثابة التعبير الحقيقي والأعمق عن المصالح الأميركية الإسرائيلية المشتركة وبعيدة المدى، والصوت الأعلى في انتقاد تطرف اليمين وتحلله من العملية السياسية وتعريضه وجود دولة إسرائيل ذات الأغلبية اليهودية والقيم الليبرالية التي تعيش في حدود معترف بها دوليا للخطر.

ولن يسلم اليمين الفاشي الذي هيمن على مفاصل الدولة في إسرائيل وأعاد صياغة خطابها الداخلي، وهمش القضية الفلسطينية وأجهض أي فرصة للحل السياسي وتبنى مشاريع الضم، وأفسح المجال واسعا أمام غلاة المتطرفين من الإرهابيين اليهود لاحتلال التلال والتنكيل بالفلسطينيين، بأن مصالحه ومصالح إسرائيل كما يراها تكمن في خطاب مثل خطاب منظمة “جي ستريت”، ومن الطبيعي أن يرى بها عدوا من الداخل وأن يطعن في شرعيتها كما فعل بيكر في مقاله المذكور أعلاه.

ويمكن القول إن انتخاب بايدن شكل ضربة قوية لسياسة اليمين في إسرائيل الأمر الذي سيقود بشكل حتمي (اذا ما أعيد انتخاب نتنياهو أو شكل قطب آخر من اليمين حكومة جديدة) إلى احتكاكات وتوترات وعدم تطابق في الرؤية بين الحكومتين خاصة في قضايا لها علاقة بعملية السلام وايران، وكيف يفهم كل طرف مصلحة ومنفعة إسرائيل، وهو ما سيعيد إثارة الجدل الداخلي بين الحليفتين، حول مفهوم ومن يمثل المصالح الحقيقية لإسرائيل، وهو جدل وإن كان لا يعبر في شكله ومضمونه عن مصالح الفلسطينيين، إلا أنه ما كان ليأخذ هذا الزخم وأن يشكل عامل توازن لدى الرئيس الجديد من دون وجود منظمة صهيونية ليبرالية تشكل ثقلا موازيا لمنظمة “إيباك” في الساحة الأميركية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى