الصراع الفلسطيني الاسرائيلي

عصمت منصور يكتب – تقرير إسرائيلي جديد : خيار انهيار السلطة الفلسطينية “ليس الأسوأ على الإطلاق”!

عصمت منصور – 15/9/2020

قدمت مجموعة من الضباط السابقين في أجهزة الأمن الإسرائيلية تحمل اسم “الأمنيون”، تأسست في العام الحالي من قبل ضباط كبار من خريجي أجهزة الأمن المختلفة ذوي التوجهات اليمينية، بهدف “فرض السيادة الإسرائيلية على المناطق المحتلة وتعزيز السيطرة الأمنية الإسرائيلية فيها”، تقريرا مفصّلا إلى رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو حول السيناريوهات التي ستواجهها إسرائيل في ما أسمتها “مرحلة ما بعد انهيار السلطة الفلسطينية”.

التقرير الذي نشر على نطاق واسع، وبخلاف كافة التقارير والدراسات والتوجهات السابقة التي أجمعت على أن انهيار السلطة أو حلها لنفسها يعتبر التهديد الأخطر أمنيا وسياسيا واقتصاديا ودبلوماسيا على إسرائيل في الوقت الحالي، أشار للمرة الأولى إلى أن هذا الخيار “ليس الأسوأ على الإطلاق”، وإلى أن “العبء الاقتصادي ليس كبيرا كما يتم تصويره”.

ويعتبر التقرير، الذي أعده الجنرال احتياط يوسي كوبرفاسر، رئيس قسم الأبحاث السابق في شعبة الاستخبارات العسكرية (“أمان”) ومدير عام وزارة الشؤون الاستراتيجية وأحد القادة البارزين في مجموعة “الأمنيون” والذي يعمل اليوم باحثا في مركز القدس لدراسة السياسات العامة، أن ثمن انهيار السلطة لا يوازي خطر بقاء إسرائيل “رهينة للسلطة ووجودها، خاصة وأن السلطة لا زالت تتمسك بروايتها التاريخية وترفض الاعتراف بدولة إسرائيل كوطن قومي للشعب اليهودي”.

واعترف التقرير، الذي حمل عنوان “إسرائيل تستطيع أن تتعايش مع انهيار السلطة”، ضمناً، بأن الخيار المفضّل لإسرائيل حتى الآن هو “استمرار بقاء السلطة وقيامها بدورها” لأن الخيارات الخمسة الأخرى التي تتراوح بين الفراغ والفوضى وعودة السيطرة الإسرائيلية الكاملة على الأراضي المحتلة وصولا إلى سيناريو سيطرة حركة حماس على الضفة، تعتبر” أقل بكثير” من خيار بقاء السلطة.

مجموعة “الأمنيون”

مجموعة “الأمنيون” تشكلت من أجل إعطاء بعد “أمني مهني” وورقة براءة ذمة أمنية للتوجهات اليمينية المتطرفة وفي مقدمتها رفض حل الدولتين وتشجيع الضم وتعزيز السيطرة الإسرائيلية على الأراضي المحتلة، وهي جاءت ردا على مجموعة أخرى من كبار الضباط خريجي أجهزة الأمن الإسرائيلية (الشاباك والموساد والجيش والشرطة) تحت اسم “قادة من أجل أمن إسرائيل” والتي تشكلت قبل ست سنوات في أعقاب انتهاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في العام 2014 وحملت توجها واضحا “ينطلق من مصلحة إسرائيل الأمنية” والمتمثلة في الانفصال عن الفلسطينيين ودعم المبادرات السياسية التي ترمي إلى إنهاء الصراع وخاصة مبادرة السلام العربية.

أهم الحملات التي نظمتها مجموعة “قادة من أجل أمن إسرائيل” كانت في العام 2017 تحت عنوان “قريبا سنكون الأغلبية” عززتها بإحصائيات ودراسات أمنية واقتصادية وديموغرافية تؤكد كارثية سيناريو انهيار السلطة والتكلفة المالية التي قد تكبّد ميزانية الدولة ما لا يقل عن 7.5 مليار شيكل سنويا، إلى جانب عودة إسرائيل إلى إدارة حياة 2.5 مليون فلسطيني بشكل مباشر وإعادة احتلال والسيطرة على التجمعات السكنية في المدن والمخيمات الفلسطينية وهو ما يعني عودة الأوضاع إلى حقبة ما قبل وجود السلطة.

انهيار أم حل السلطة؟

عودة شبح سيناريو حل أو انهيار السلطة الفلسطينية عاد ليطفو على السطح في النقاشات الإسرائيلية الداخلية بمستوياتها المختلفة على ضوء ما وصفه مركز أبحاث الأمن القومي بـ”الفشل الاستراتيجي” الذي واجهه مشروعها ما بعد انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب وطرحه لـ”صفقة القرن” وعقد اتفاقيات تطبيع علاقات مع الإمارات (ولاحقا مع البحرين)، مقابل تشكيلنتنياهو لحكومة وحدة بالشراكة مع حزب أزرق أبيض أدرج ضمن جدول أعمالها موضوع ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية إلى إسرائيل، متوجا بذلك عقدا من حكم اليمين والجمود السياسي وخلق الوقائع والضم الزاحف على الأرض.

الواقع الجديد الذي عززه انحياز ترامب المطلق لنتنياهو وتبنيه لمشروع اليمين، يفقد السلطة الفلسطينية مبرر وجودها ويحوّلها إلى كيان ضعيف، وفاقد للأهلية السياسية وآيل للانهيار، وهو ما يتطلب من إسرائيل حسم أمرها ورسم سيناريو في كيفية التعامل معه- تركه ينهار أم إسناده وبث الروح فيه من جديد أم ربما إعادة صياغته من جديد بما يتناسب مع الدور المقلص (حكم إداري ذاتي) الذي حددته “صفقة القرن”. هذا الواقع الذي بلغ ذروته عندما حددت حكومة نتنياهو- غانتس تاريخ الأول من تموز على أنه الموعد الفعلي للشروع في تطبيق خطة الضم، وهو ما دفع بالسلطة الفلسطينية إلى الإعلان عن “تحللها” من الاتفاقيات التي تربطها بإسرائيل ووقف التنسيق الأمني معها، وهو ما يعني ضمنا انتهاء صلاحية الإطار المرجعي الذي قامت على أساسه – اتفاق أوسلو- والصعود على سكة المواجهة ما يقود إلى تفكك السلطة التي ستدخل بفعل قرارها “غير المسنود عربيا ودوليا” في أزمة مالية وإدارية وعجزها عن أداء التزاماتها تجاه السكان.

ورغم أن الرئيس محمود عباس لم يهدد بحل السلطة بشكل صريح عند إلقائه بيان القيادة الفلسطينية الذي أعلن فيه عن قرار التحلل من الاتفاقيات مع إسرائيل في التاسع عشر من أيار الماضي، إلا أن هذا السيناريو والتلويح بتسليم المفاتيح للاحتلال ليس جديدا على خطابه في السنوات العشر الأخيرة من حكم اليمين. تكرار هذا التهديد دون الإعداد بشكل جدي لليوم التالي جعل إسرائيل تنظر إليه بنوع من اللامبالاة وعدم الجدية، حيث اعتبر المركز المقدسي للسياسات العامة أن إعلان التحلل من الاتفاقيات ورغم الأزمة السياسية التي تمر بها السلطة لا يعني الذهاب إلى خيار حل السلطة وقطع كافة الطرق للعودة إلى المفاوضات، ذلك أن الرئيس” لا يزال يرفض الدخول في مواجهة على غرار الانتفاضة الثانية ويعتبر أن السلطة إنجاز وطني لا يجب التفريط به”.

ذات الاستنتاج خلص إليه مركز أبحاث الأمن القومي الذي اعترف بأن الأزمة التي تعيشها السلطة غير مسبوقة ولكنها لن تؤدي إلى حلها خاصة إذا ما عملت إسرائيل على عدم تهميش السلطة أكثر وعلى جعلها تقطف ثمار الاتفاقيات العربية- الإسرائيلية.

إذا كان خيار حل السلطة بقرار سياسي فلسطيني مستبعدا ولا يتم أخذه بجدية من قبل إسرائيل، فإن خيار انهيارها بفعل الأزمات التي تعصف بها وحالة الضعف التي تشهدها وتقويض المرجعيات التي قامت على أساسها يبقى هو السيناريو الأقرب أو الممكن إذا ما استمر نتنياهو في سياسته ضدها.

فرئيس جهاز الشاباك السابق يعقوب بيري يعتبر أن انهيار السلطة ستكون له “آثار سلبية بعيدة المدى على إسرائيل وأن من الصعب إيجاد إطار مقبول عالميا ومتواجد على الأرض ليحل مكانها”.

في أقوال بيري اعتراف ضمني أن بقاء السلطة ومنع انهيارها يتوقفان بشكل كبير على سياسة إسرائيل تجاهها، وإذا ما وقع هذا السيناريو فسيكون بسبب إسرائيل التي ستتحمل مسؤوليته وتبعاته كاملة.

أما موشيه مرزوق، المستشار السابق لمنسق جيش الاحتلال، فاعتبر أن انهيار السلطة سيكون “العقوبة الأشد التي تتلقاها إسرائيل” لأنها ستعني عودة الجيش إلى المناطق (المحتلة) وتولي مسؤوليات الأمن والصحة والتعليم، إلى جانب الأثر الدولي لمثل هكذا سيناريو.

كما أن انهيار السلطة الذي يهدد به الرئيس عباس لا سابقة له في التاريخ، وفق مركز بيغن- السادات، الذي ورغم أنه شكك في أبحاثه بجدية التهديد الفلسطيني باللجوء إلى ما وصفه بـ”السلاح النووي الفلسطيني” فإنه سيقود إضافة إلى كل ما ذكر أعلاه، إلى عودة حماس وربما سيطرتها على الضفة. ونتنياهو لا يحاول منع انهيار السلطة، بقدر ما تحاول أجهزة أمنه تأخير هذا الانهيار من خلال إبقاء قنوات اتصال مفتوحة مع السلطة وتقديم توصيات للمستوى السياسي بالتخفيف من حالة الاحتقان والضغط التي يعيشها الشارع الفلسطيني نتيجة العجز الآخذ في الازدياد لدى السلطة.

ربما يمكن تفسير أن لامبالاة نتنياهو تجاه التهديد الفلسطيني بحل السلطة او إمكانية انهيارها نابعة من توجهاته اليمينية المتطرفة وعدم قناعته بالحل السياسي منذ البداية، بالإضافة إلى القيود التي يفرضها عليه تحالفه مع الأحزاب الدينية القومية والاستيطانية، وأنه أيضا لا يشعر بأي ضغط حقيقي من قبل السلطة أو جدية في توجهاتها نحو حل نفسها، كما عبر عن ذلك بعد الإعلان عن “صفقة القرن” بقوله للصحافي والمحلل الإسرائيلي شالوم يروشالمي بأن “لا نية للسلطة بحل نفسها وتنفيذ تهديداتها”.

البديل

إذا كانت هناك لحظة اختبار حقيقية لمدى تقبل إسرائيل لخيار انهيار السلطة الفلسطينية، فهي تكمن في المواجهة الأعنف والأطول التي شهدها الصراع منذ توقيع اتفاق أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية، والمتمثل في الانتفاضة الثانية التي اندلعت بعد فشل قمة كامب ديفيد 2 بين الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ورئيس الحكومة الإسرائيلية وزعيم حزب العمل سابقاً إيهود باراك في العام 2000.

فالانتفاضة الثانية التي تعرف فلسطينيا باسم انتفاضة الأقصى لارتباط اندلاعها باقتحام أريئيل شارون، رئيس المعارضة في ذلك الوقت، للمسجد الأقصى، أوصلت العلاقات بين السلطة وإسرائيل إلى أدنى مستوى لها. وشارون الذي انتخب رئيسا للحكومة على وقع العمليات في قلب المدن الإسرائيلية، تعهد باستعادة الهدوء واعتبر في أكثر من مناسبة أن السلطة الفلسطينية متورطة “بالإرهاب” وأن رئيسها ياسر عرفات يقود أو يوجه ويشجع النضال المسلح ضد الإسرائيليين في قلب المدن الإسرائيلية.

وتزامن أحداث الانتفاضة مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتدمير برجي التجارة في نيويورك اعتبر فرصة سانحة لشارون من أجل الانقضاض على السلطة الفلسطينية ورئيسها الذي شبهه ببن لادن. ولم تمض أشهر حتى أعلن شارون عن شن حملة عسكرية اجتاحت قلب المدن الفلسطينية وقام على أثرها بمحاصرة الرئيس عرفات في مقر إقامته في المقاطعة في رام الله.

رغم اجتياح المدن التي تعتبر مناطق سيطرة كاملة فلسطينيا (مصنفة ألف وفق اتفاق أوسلو) وقصف مقرات الأجهزة الأمنية الفلسطينية، إلا أن شارون امتنع عن الإعلان عن السلطة ككيان إرهابي بل اكتفى بشيطنة رئيسها ووصمها باللجوء إلى الإرهاب، في إشارة إلى السياسة الجديدة التي تبناها والتي تقضي بإعادة صياغة دور السلطة وتأهيلها أمنيا وفرض قيود وفترات اختبار عليها قبل التعاطي معها.

وقد أشار مركز يافه للأبحاث الإستراتيجية في حينه إلى أن شارون وقف أمام أربعة خيارات في تلك الفترة، كان أحدها سحق السلطة من خلال إعادة احتلال المدن وطرد قادة السلطة وعودة الجيش إلى الانتشار مجددا في المدن الفلسطينية، إلى جانب خيار الانفصال الأحادي أو بناء جدار فاصل وأخيرا التوجه إلى الدول العربية والدفع باتجاه عقد اتفاق سلام إقليمي بروحية مبادرة السلام العربية، الا أنه اختار الخيار الذي يدمج بين الانفصال الجزئي من خلال الانسحاب من غزة وإقامة جدار فصل يفصل التجمعات الفلسطينية عن الإسرائيلية، مبقيا على السلطة ضمن الصلاحيات المقلصة التي بقيت لديها والتي تعمق تبعيتها لإسرائيل وتجعل وجودها مرتبطا بها بشكل أكبر.

ويبدو أن شارون اختار ادارة الصراع وتقليص دور السلطة ووظيفتها إلى أدنى مستوى، وهو ما استكمله نتنياهو فيما بعد، لأن أيا منهما لا يستطيع أن يتحمل تبعات الفراغ الذي سينشأ عن عدم وجود سلطة تدير حياة الفلسطينيين وإلغاء بصيص الأمل بحل سياسي على أساس حل الدولتين ما يعيد إلى الواجهة خطر حل الدولة الواحدة.

كما يبدو أن الملامح التي أرساها شارون ما بعد الانفصال عن غزة هي التي تحكم النظرة الإسرائيلية للسلطة حتى الآن، وقد لخصها معهد القدس للسياسات العامة بكونها سياسة قائمة على “إدارة الصراع وصولا إلى تهيئة السلطة للقبول بحكم ذاتي محدود” خاصة وأنها فشلت، برأيه، في الوصول إلى دولة وفشلت اقتصاديا ولا تسيطر على السكان والمناطق المخصصة للدولة الفلسطينية ومنقسمة على ذاتها.

وبرغم كل هذه الأسباب وتقلص إمكانية تحقيق حل الدولتين يخلص المركز إلى أن السلطة لن تبادر إلى حل نفسها، كما أن إسرائيل لن تسمح بانهيارها من خلال إدارة الصراع وضمان وجود سلطة ضعيفة فاقدة للمؤسسات ومرتبطة بإسرائيل إلى أن تتهيأ الظروف لولادة قيادة “تقبل بحكم ذاتي على السكان أو يفرض عليها حل من الخارج بدعم عربي”!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى