شخصيات

عز الدين القلق

ولد عز الدين القلق في مدينة حيفا عام 1936، أطلق عليه والده هذا الاسم؛ تيمّناً بالمناضل الشيخ عز الدين القسام، الذي قاد في نفس العام الثورة الفلسطينية، وكان والد عز أحد أتباعها.  وفي عام 1948م، وبسبب إرهاب العصابات الصهيونية؛ اضطرت عائلته إلى الرحيل إلى دمشق، واستقرت هناك حتى الآن؛ وفي مدارسها(مدرسة ابن خلدون، وثانوية الميدان، بدمشق) تلقى علومه ونال شهاداته العلمية، وحصل من جامعة دمشق على درجة الليسانس فرع رياضيات /فيزياء/كيمياء عام 1962/ 1963م.  

منذ صغره، شغف عز الدين بالموسيقى والرسم والكتابة والتمثيل؛ وكان طالباً متميزاً منذ سنيِّ شبابه الأولى؛ إذ مثّل على خشبة المسرح المدرسي والإذاعي، وكتب القصة القصيرة وهو في العشرين من عمره تقريبًا؛ وكان آنذاك واحداً من أعضاء “رابطة وحي القلم” الأدبية؛ ونشرت قصصه آنذاك في الصحف السورية (النّقاد، الرأي العام، الطليعة).  وقد صدرت مجموعته القصصية بعد استشهاده بعنوان “شهداء بلا تماثيل”.  كانت هذه القصص  بالنسبة إليه، كما قال عنها: “اختمارا لعناصر الثورة في الوعي الفلسطيني والعربي؛ وذلك بعد ثمانية سنوات على النكبة والهجرة وتعبيراً لم يكتمل بعد”.  هذا الوعي الفكري، الذي صاحب وعيه السياسي المُبكر وتعاطفه مع الأفكار التقدمية والديمقراطية، كانت نتيجته أن زُجّ في السجن السياسي لمدة ثلاثة أعوام (منذ 1959م، وحتى1961).

عمل لمدة سنتين بعد تخرجه الجامعي مباشرة، في المملكة العربية السعودية مدرسًا لمادة الكيمياء، والفيزياء في ثانوية اليمامة للبنين بمدينة الرياض؛ لكن طموحه كان أعظم من ذلك؛ فقرر متابعة تحصيله العلمي العالي، والتعرف على العالم الغربي، والنهل من حضارات الأمم المتعددة؛ فسافر إلى فرنسا عام 1965م، حيث باشر تعلّم اللغة الفرنسية في مدينتي (تور-بواتيه)، وهناك حصل عام 1966م على “أهلية تعليم اللغة الفرنسية في الخارج”، بدرجة “جيد”.

وقد نال درجة الدكتوراة عام 1969م، وكانت رسالة الدكتوراة التي قدمها، في الكيمياء الفيزيائية، ونال إعجاب وتهاني لجنة التحكيم في “جامعة بواتيه –كلية العلوم”.  كل ذلك لم يمنعه كطالب، من التحدّث عن قضيته، التي حملها بقلبه وعاش أحداثها بكل حواسه ودقائق عمره؛ فأخذ يشرحها للمحيطين به بشكل علمي ومنطقي مدروس، وكان يقيم لهذا الهدف الندوات، ويتنقّل بين المدن الفرنسية المختلفة؛ ما لفت أنظار الصهاينة إليه؛ فرأوا فيه خصمًا فلسطينيًا خطرًا؛ فحاولوا اغتياله عدة مرات، وبأساليب متنوعة؛ وذلك قبل أن يتسلم مهامه كممثل لمنظمة التحرير الفلسطينية في باريس، خلفاً للشهيد محمود الهمشري.

انتقل من “بواتيه” إلى باريس، حيث انتخب عام 1969 رئيساً لاتحاد طلبة فلسطين؛ وتعاون آنذاك مع ممثل فتح (الشهيد محمود الهمشري)؛ لتدعيم النضال الفلسطيني على الساحة الفرنسية، التي تمثل أشدّ الساحات الأوروبية ضراوة وقسوة وأكثرها خطورة؛ نظرًا لوضع فرنسا من جهة؛ وثقل الحركة الصهيونية فيها من جهة أخرى.

بعد اغتيال الهمشري، وبتزكية من الطلاب والعمال العرب، في فرنسا، الذين ناضل عز الدين بين صفوفهم، وتمتع بثقتهم- اختير خلفاً لسلفه؛ فكان بذلك، أوّل ممثل لمنظمة التحرير الفلسطينية يتم اختياره من قبل الفئة المذكورة، قبل اختياره وتسميته رسميًا من قبل المنظمة نفسها.

باشر عز الدين مهامه الدبلوماسية، إضافة إلى متابعة مسيرته النضاليّة في ظروف سياسية صعبة.  ومنذ 1/9/ 1973م، راح يعمل بجد ودأب متواصلين؛ فاكتسب صداقات كثيرة في فرنسا وأوروبا؛ واتصل بالأحزاب والقوى السياسية، وخاصة التقدمية والديمقراطية؛ واشتهر بأنه من ألمع العقول الدبلوماسية البارزة في الثورة الفلسطينية، واستطاع بفضل شخصيته المتميزة من جهة؛ وإتقانه للغتين الفرنسية والإنجليزية من جهة أخرى- أن يخاطب عقول الفرنسيين بل وقلوبهم أيضاً؛ حتى عُرف “برجل التلفزيون، الفلسطيني”؛ ولم يكن ذلك بالأمر السهل في محيط تضج فيه الدعاية والإعلام الصهيونيان بالنشاط.

أمّا خارج فرنسا، فقد شارك عز الدين في العديد من المؤتمرات في أوروبا وإفريقيا والولايات المتحدة الأمريكية، التي كان أهمها على الإطلاق “مؤتمر اتحاد البرلمانيين الدولي في مدريد”؛ حيث قابل خلاله ملك إسبانيا (خوان كارلوس)، وأجرى معه حواراً تمخض عن السماح لمنظمة التحرير الفلسطينية بافتتاح مكتب لها في مدريد بشكل رسمي.  وقبل تلك الآونة كان الرئيس الفرنسي ديستان قد وافق على افتتاح مكتب ارتباط وإعلام للمنظمة بشكل رسمي، تلاه دعوة عز الدين كممثل للمكتب المذكور لحضور الحفل الذي أُقيم في قصر الإليزيه، لمناسبة زيارة جلالة الملك خالد (عاهل المملكة العربية السعودية)، أوائل عام 1978م؛ وبذلك كان أوّل مسؤول فلسطيني يدخل القصر المذكور بدعوة رسمية.

ورغم المسؤولية الملقاة على عاتق عز الدين، وساعات عمله المتواصلة، وعدم استقراره في منزل خاص به؛ إلا أن أحلام الدراسة والنهل من منابع العلم لم تفارقه؛ فانتسب إلى “المدرسة التطبيقية” في الدراسات العليا، بصفة مستمع.

أمّا التحليق في أثير سماء الفن الرحب، فقد كان له مكانة عظيمة في قلبه؛ فعمل دائماً على إظهار التراث الفلسطيني والوجه الحضاري للشعب المقهور، الذي حاولت الصهيونية طمس هويته؛ فأمضى ما كان يستطيع اختلاسه من الوقت في البحث عن البطاقات البريدية، التي كانت ترسل منذ مطلع القرن من فلسطين، والتي تحمل اسم “فلسطين” العربية، وتصوّر تراث شعبها، وعمل بدأب كالنحلة على تجميعها، حيث صدرت في كتاب.  

كذلك وجدت بحوزته أكبر مجموعة من الملصقات الفلسطينية مع مسودة بخط يده، قام بإعدادها قبل رحيله؛ وعملت دار نشر “سيكومور” في باريس على إصدارها، بعنوان “الملصقات الفلسطينية، مجموعة الشهيد عز الدين القلق”.

وتجدر الإشارة إلى أنّه قد قام بتأسيس قسم خاص بالسينما الفلسطينية في مكتب المنظمة في باريس؛ إذ كانت له اهتمامات جدّية في هذا الحقل؛ لاعتقاده بأنّ السينما هي إحدى الأدوات الفعالة لخدمة قضيته وكل القضايا العادلة.  وفي هذا الصدد وصفته مجلة “كابيه” السينمائية الفرنسية (عدد أيلول/سبتمبر عام 1978م) بأنّه يتمتع بكثير من الفطنة والموهبة التي أنْسته قليلا من الوحدة التي فرضت عليه بسبب عمله؛ واستقطب حوله مجموعة من الشبان السينمائيين الفرنسيين التقدميين “مجموعة فانسان”، الذين أخرجوا فيلماً وثائقيا عنه بعد استشهاده بقليل، والذي يحمل اسمه.

أمّا في المجال الإذاعي، فقد عمل فترة من الزمن في إذاعة “مونتي كارلو” مسؤولًا عن ترجمة وإعداد النشرة الإخبارية؛ وذلك قبل تسلمه مهام ممثل المنظمة في باريس.

لقد ارتقى عز الدين شهيدًا على درب النضال الفلسطيني بتاريخ 3.8.1978؛ فكان لاغتياله على أيدي العمالة والغدر وقع كبير على الصعيدين العربي والعالمي؛ حيث نددت الصحف بذلك العمل الجبان واستنكرته؛ كما شجبته الجموع التي كانت تعرف نضالاته وتتابعها، وخاصة جموع المناضلين والعمال والطلاب في فرنسا، وفي دول شمال إفريقيا، وقبلها في فلسطين وسورية وسائر الدول العربية؛ وأشادت بشجاعته كمناضل، وبدوره اللامع كدبلوماسي؛ وأصدرت وزارة الخارجية الفرنسية بياناً رسمياً بهذا الشأن جاء فيه: “كان يعمل دائمًا على إجراء حوار بنّاء مع السلطات الفرنسية”؛ كما أشادت معظم الصحف بنقائه وحيويته وذكائه وصفاته الحميدة التي تمتّع بها، وسخّرها لخدمة قضيته.

واتهمت “منظمة التحرير الفلسطينية”، رسميًا، “تنظيم أبو نضال”،(صبري البنا) المنشق عن حركة فتح والمُخترق من قبل جهاز الموساد بالعملية.

وبفقدان عز الدين القلق، خسرت منظمة التحرير الفلسطينية مناضلاً عنيداً ودبلوماسياً لامعاً، وفناناً رفض حمل السلاح، رغم التهديدات المتواصلة؛ وخسر الشعب الفلسطيني عالماً كيميائياً، وشخصية اجتماعية آمنت بدور المرأة في الكفاح إلى جانب الرجل لخدمة المجتمع؛ فقد كان عز الدين أوّل مسؤول يدعم تسلم فتاة فلسطينية رئاسة “اتحاد الطلبة الفلسطينيين” في فرنسا، وكانت ليلى شهيد، التي تولت فيما بعد مهمة منصبها كسفيرة فلسطينية في باريس وكمندوبة لفلسطين لدى الاتحاد الأوروبي. 

شاركت جموع كبيرة بالصلاة عليه في جامع باريس، ومنهم رجال السلك الدبلوماسي العربي  المعتمدون في باريس؛ كما حضرت لوداع جثمانه جموع من شرائح المجتمع الفرنسي التي عرفته، ومن الفنانين و المناضلين الفرنسيين والأجانب، الذين كانوا يشاركونه في نشاطات الدعم والتأييد للشعب الفلسطيني المقامة في فرنسا.  تمّ بعدها نقل جثمانه إلى دمشق، حيث أقيمت له جنازة حاشدة شارك فيها عشرات الألوف من المواطنين الفلسطينيين والسوريين؛ وألقى الرئيس الراحل ياسر عرفات كلمة تأبين للشهيد في مخيم اليرموك في دمشق؛ حيث تمّ دفنه في مقبرة الشهداء مع رفاق الدرب، الذين سبقوه.  وكان برفقة الرئيس كبار المسؤولين من قيادة المنظمة وحركة فتح والتنظيمات الفلسطينية المختلفة، ومن بعض الأحزاب والشخصيات الاجتماعية السورية، ومن رجال من السلك الدبلوماسي العربي؛ كما حضر في التشييع الدكتور لاريفييه (رئيس الجمعية الطبية الفرنسية-الفلسطينية).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى