عريب الرنتاوي يكتب – في السجال الهابط… هنا وهناك
مؤسف أن نجد أنفسنا، مع نهاية كل عام، في سجال عقيم وهابط، حول جواز، أو عدم جواز، الاحتفال بموسم الأعياد… ومحزن بعد كل ما مررنا به، ومرت به المنطقة برمتها، أن يخرج علينا «جيل جديد» من «فقهاء الظلام»،بـ «فتاوى» التحريم والتكفير، التي تسيء لنا جميعاً، وليس لفئة من مواطنينا فحسب، وتلحق أفدح الضرر بنسيجنا الاجتماعي وعيشنا الواحد، وتصرفنا عمّا يتهددنا من تحديات الداخل والخارج.
مخجل هذا النفاق والانفصام، اللذان لا يفارقا مجالس «فقهاء الظلام» من مطلقي «الفتاوى الضلالية» و»عظاتهم»…فهم لا يكفّون عن التغني بماضي العيش الكريم لغير المسلمين في ظلال الدولة الإسلامية، ولكنهم يسقطون في الاختبار عند أول محك…لكأن إضاءة شجرة أو إنارة شارع، أو تزيين واجهة منزل أو محل، أمرٌ جلل، يتهدد العقيدة في أحد (أو جميع) أركانها…هؤلاء ليسوا منّا ولسنا منهم.
أصدقكم القول، أنني أشعر بـ»وخزة» عندما يستهل أحدهم، وربما يكون حسن النيّة، حديثه عن فلان أو علان «من الإخوة المسيحيين»…أشعر أن «الأخوّة» هنا، ترد في التمييز والاستثناء، وليس للدلالة على الشراكة في الوطن والمساواة في المواطنة…أشعر بقلق أكبر، حين يقال إن فلاناً جيد وصادق وأمين، علماً بأنه «غير مسلم»، لكأن الخصال الحميدة تقتصر علينا وحدنا، دون سوانا من خلق الله…وينتابني إحساس بالاشمئزاز، حين أرى البعض من أبناء مدرسة «التحريم» و»التكفير»، ينظم شعراً أو ينثر خطباً تمجد تماهي مسيحيي بلادنا بمسلميها، حتى أنهم يطلقون أسماء الصحابة الأجلاء على أبنائهم، ويرددون «البسملة»و»آيٍ من ذكر الحكيم»…لكأن المسيحي الجيد، هو المسيحي «الممسوحة هويته الدينية»، والمُعاد انتاجه، على صورتنا وشاكلتنا، لكأننا في أعمق أعماقنا، نرفض قبول الآخر كما هو، ونريد له أن يكون رجع صدى لصوتنا وأفكارنا عن العالم والحياة والخلق والطبيعة والمجتمع.
تأخذ المسألة بعداً فجائعياً، فيه شيء من الكوميديا السوداء، حين يندلع سجال متخلف كهذا في فلسطين، وطن المسيح الأول، ومهد رسالته ومسرح حياته…وفي كل سنة، من أسفٍ، تفجعنا سلطة الأمر الواقع في قطاع غزة، بقرارات تنتمي لأكثر المدارس الفقهية تخلفاً، فتشرع في حظر الاحتفالات بالميلاد ورأس السنة، وتستنفر «شرطتها الدينية» لقمع مظاهر الفرح والاحتفال، لكأنهم يستكثرون على أقل غزة، لحظة فرح بالميلاد أو بمقدم العام الجديد.
النفاق هنا، يبلغ مبلغاً عظيماً، حين تستمع لأحدهم، يذكرك بأن مسيحيي فلسطين (جزء منهم على الأقل) صوّت لحماس في آخر انتخابات تشريعية…أو يبدأ بالإشادة بمناضلين وشهداء من المسيحيين، نشطاء وسياسيين ومثقفين ورجال دين…ثم ينصرف من دون أن يجد نفسه مرغماً على شرح هذا التناقض والازدواج…أهكذا تكافئون من صوتوا لكم؟…أهكذا تكافئون شهداءنا وأبطالنا من مناضلين ورجال دين، تحولت مآثرهم إلى «أساطير» تروى وتتناقلها الأجيال؟
ينسى هؤلاء في حمأة اهتياجاتهم الغرائزية، أن شعبهم في صراع حول «الصورة» و»الرواية» مع من يحتل أرضه ويدنس مقدساته ويمنع عنه لقمة الخبز وحبة الدواء…إسرائيل تزعم، أن حرية العبادة لأتباع الديانات، بما فيها الاحتفاء بمناسباتها، لم تكن مضمونة يوماً كما هي اليوم، تحت حراب احتلالها…حماس، تعطيهم الشواهد والبراهين على صحة مزاعمها…إسرائيل تكسب معركة «الصورة» و»الرواية» والفلسطينيون يخسرون…شكراً حماس.
أيها السادة: لو لم يكن في فلسطين مسيحيون من أبناء البلاد الأصليين، لتعين استجلابهم وتوطينهم…لا معنى لفلسطين، إن لم تكن حاضنة لهذا التنوع الديني…لا معنى لفلسطين من دون مسيحييها، اللهم إلا إذا كان البعض منهم، يتمنى في سريرته إلحاق «المهد» و»القيامة» بمصير «آيا صوفيا»…ألم يفرحوا بقرار تحويلها إلى مسجد، فرحاً عظيماً؟