عدلي صادق يكتب – هذا ما يستحق الوصف.. وما خفي أعظم !
عدلي صادق 21/9/2020
يتوجب إجزال الثناء لدولة قطر، بشفاعة عدد من “المكرمات” التي جاءت في وقتها، ولا تجود بمثلها سوى السلطات الراسخة في علوم ما بعد التطبيع المعلوم. فعلى مدى سنوات طويلة، ظلت أبواق النظام القطري تحاول التعمية على حقيقة وعمق علاقات الدوحة بتل أبيب، واللعب بالبيضة والحجر، لخلق انطباعات مخففة عن هذه العلاقة، التي جعلتها لغزاً مُستغلقاً، لا تفتح الفرضيات الظنية أقفاله.
وتعجز – بالنتيجة – مراكز الأبحاث عن فك شيفرة الدلال الكبير الذي تحظى به قطر لدى إسرائيل، حتى أصبح بمقدور موفد قطري واحد، إلى تل أبيب، أن ينجز في غضون دقائق ما يعجز عن طرحه أصلاً موفدو دول إقليمية ودولية وازنة.
لقد بلغت قطر من البراعة في تجميع المتناقضات حداً يستحق الدراسة في العديد من الحقول البحثية. فمن جهة، دأبت منابرها الإعلامية على فضح كل من اشترى قبل سنوات، برتقالة من اليهود، أو صافح إسرائيلياً في جنازة، ودأبت “الجزيرة” وأخواتها على توزيع الاتهامات بالخيانة يميناً ويساراً، وتشغيل البرامج الحوارية للتأثيم والشيطنة، وكأن نظام قطر هو حارس الفضيلة الإسلامية والوطنية والقومية، وعنصر الدفاع السديد عن القضية الفلسطينية.
في الوقت نفسه، تفوقت قطر على شقيقاتها الأخريات في عدد الاتفاقات الأمنية مع أميركا (ومع إسرائيل ضمناً وفي المحصلة) وتلك اتفاقات ظلت الدوحة تباهي بها، ككؤوس مسابقات أحرزتها، ولم يحرز خصومها مجتمعين على نصف عددها.
في الوقت نفسه، استطاعت قطر، بعبقريتها التطبيعية، إقناع الأميركيين والصهاينة بأنها الأجدر في مكافحة الإسلاميين سواء كانوا من “الإخوان” أو من أتباع “الجهادية السلفية”. لكنها ظلت هي نفسها التي توفر المنابر الإعلامية لهؤلاء لكي يتقيأوا كل الكلام والرؤى الفائحة.
وأغلب الظن أن هذه الأعطية كانت ولا تزال مقصودة ومطلوبة إسرائيلياً وأميركياً، ضمن حزمة خدمات ملعوبة. فالغرب أساساً سيكون معنياً بإتاحة الفرصة للمتطرفين والتكفيريين، لكي يحرقوا أنفسهم بأنفسهم، وأن تتهاجى فصائلهم مع شبيهاتها، وأن تعرض من خلال السجالات تفاصيل دواخلها وأشخاصها. فهذه أصلا مهمة مراسلي وسائل الإعلام الأميركية والبريطانية، الذين يخاطرون بأرواحهم لكي يتعرفوا على عدو مفترض للغرب يمكن استغلاله لكي يعمل ضد البلدان العربية والمجتمع العربي الإسلامي، لإضعافها، ويدق الأسافين ويصنع الفتن.
فعلى هذا الصعيد، خذ واشبع من مسميات وعناوين برامج الجزيرة: “سري للغاية”، “ما خفي أعظم”، “للقصة بقية”، “الصندوق الأسود”، “شاهد على العصر” وغير ذلك من العناوين المخابراتية التي تذكرنا بالأعرابي الذي سأل واحداً من قبيلة أخرى “ما اسمك؟” أجابه “حديد”، وعاد فسأله “حديد ابن مَنْ؟” أجاب “ابن منيع بن شديد”، فصاح الأعرابي: ويْحَكُمْ، لا أحسب الأقفال إلا صُنعت من أسمائكم!
في مرحلة انتفاضة الأقصى، وكلما ارتفع منسوب الدم الفلسطيني المسفوك، وبلغت مظلومية الشعب الفلسطيني مدى لا تستطيع الولايات المتحدة نفسها السكوت عنه، وكلما خرجت في تل أبيب مظاهرات يهودية تندد باستخدام أحدث الطائرات الحربية ضد السقائف وعربات الكارو والمدارس والمساجد الفلسطينية؛ سارعت “الجزيرة” تسحب من أرشيفها تحقيقاً مصوراً لتخفيض مستوى التنديد بمجرمي الحرب. طالما أن حماس تشكل هذا الخطر المريع على وجود دولة إسرائيل.
تحقيق مصور مثل هذا، تسمح به حماس ظناً منها أنه دعاية حربية يمكن أن تخيف إسرائيل، بينما الجزيرة في الحقيقة، تريد من وراء بثه إقناع العالم أن إسرائيل غير ملومة على صب نارها الحارقة على غزة، طالما أن تحت أرض القطاع هناك أرض أخرى لحماس عبارة عن مدينة صناعية شاسعة، تزدحم بمصانع السلاح التي تنتج كل أنواع الصورايخ والقذائف.
وفي أحد هذه التحقيقات عُرضت وقائع اختبار القذائف ضد الدروع، وكأن غزة أصبحت تضاهي كوريا الشمالية، ما يجعل إسرائيل مضطرة إلى دك بيوتها ومدارسها.
أما الجديد القطري الذي يستحق الثناء، فهو المروءة التطبيعية، إذ على الرغم من الخلافات لم تتردد الدوحة في مساندة حديثي التطبيع، بالكشف عن شيء يتجاوز تطبيعهم ويتوغل في كيمياء إسرائيل وعمق فلسفتها الأمنية.
الدول العربية التي أقامت علاقات مع إسرائيل مؤخرا تنوه إلى حقها في اتخاذ قرارات سيادية، لذا كان القطري الذي يساند أشقاءه بما هو زائد عن التطبيع وعن حدود صلاحية القرار السيادي، كمن يقول ها أنذا أتدخل في ما هو أبعد من التطبيع، وأقف مع التسوية على أساس صفقة ترامب – نتنياهو التي يسمونها “صفقة القرن” ورفضتها الدول العربية المطبّعة قبل الرافضة للتطبيع.
وباعتبار أن لكل رزيّة طرائفها، فإن أطرف ما ينشأ عن هذه المساندة القطرية، أن الآخرين سيصمتون، ولن يتحدثوا عن حقوق سيادية قطرية، ولن يعترفوا للدوحة بأن منحاها الجديد والمفاجئ، الذي جرى الإفصاح عنه، ملفوف بورق السوليفان، وفي داخله عزم أكيد على مساعدة الطرف الفلسطيني ووقف الضم. فكأنما هي أربكتهم ببلاغة تطبيعها الذي تجاوز أسوأ الظنون.
إن اعتبرنا ذلك كله مشهداً واحداً، فإن المغفلين هم كل الذين صدقوا بأن قطر نصير المقاومة والمشروع الإسلامي، حتى ولو كان هذا المشروع هو نفسه الذي دعا إليه ونستون تشرشل في العام 1922 وعلى أساسه تحادث موفدوه مع الشيخ محمد رشيد الرضا، ملهم الشيخ حسن البنا، ثم تحادث الأميركيون بشأنه مع صهر البنا، الشيخ سعيد رمضان، الذي تحدثت عنه وكالة الاستخبارات الأميركية علناً، باعتباره عميلاً لها، وأنها هي التي فرضت على ألمانيا تسليمه مسجد ميونخ ومراكز إسلامية أخرى في سويسرا وألمانيا، وقد استقبله الرئيس الأميركي أيزنهاور في البيت الأبيض في العام 1953.