عدلي صادق يكتب – مسيرات غزة في تداعياتها : سجالات وجنائز
عدلي صادق *- 17/10/2018
من بين المآخذ على منهجيات عمل الحركات والفصائل الفلسطينية أو قادتها، التحسس الشديد من المراجعات التي تتناول أداءها بالتمحيص والتقييم. فالمراجعة عند هؤلاء تعني التراجع وحسب، وهذا هو الأمر الذي تتحاشاه القيادات الفلسطينية لفظا، وتصر على إنكاره مهما بلغت الخسائر.
وفي حال تراجعها موضوعياً، لا تعترف بأنها راجعت أداءها وانتهت إلى خلاصات منطقية، وأن الإحساس بالمسؤولية اقتضى التغيير في سياق حركتها. ومهما علا منسوب النقد وحلَّ التعارض على الصعيد الشعبي، فإن هؤلاء القادة يصبحون أكثر تمسكا بمنهجياتهم ويكابرون.
كأن من العيب أن يُدار نقاش داخلي، يُعلن عنه على المستوى الوطني، لمراجعة مسألة “المسيرات” التي تتبناها حماس في أيام الجُمع، وتنتهي في كل مرة بالإعلان عن أسماء الشهداء وعن قائمة الجرحى الذين لا تُذكر أسماؤهم، وإن ذُكرت أسماء بعضهم تكون جروحهم بليغة.
بالمقابل، لم تحظَ منهجية التعاطي مع غزة، في أوساط رئيس السلطة محمود عباس، بأية مراجعة. ليس ذلك لأن الرجل لا يناقش أحداً وحسب؛ وإنما لأنه أصلاً مقطوع الصلة بما يضطرم في المجتمع الفلسطيني، وما يتخلله من مشاعر مريرة وأوجاع. فهو لا يكترث لردود الأفعال الناقمة، ولا لأنين الحزانى والجِياع. فلم يُشاهد الرجل حاضراً بنفسه، لمواساة عائلة منكوبة في الضفة الفلسطينية، أحرق المستوطنون المتطرفون بيتها بمن فيه، حتى وإن كانت الواقعة مدوية واهتزت لها مشاعر كثيرين في العالم. ولم يُشاهد في مجلس عزاء، حتى وإن كان المتوفى من مواليه.
وفي حال أن يكون من الموصوفين بأنهم ضمن القيادة أو الرموز، فإنه يعلن عن تقبل التعازي لساعتين في مقر إقامته دفعا للحرج، أو إصدار بيان نعي. ولا يرفع هذا الحرج عنه معرفة الناس أن المتوفى قضى فيما هو يعاني من إقصاء أو قطع راتبه بجريرة رأي.
على صعيد ما يُسمى “مسيرات العودة” في قطاع غزة، وهي التي بدأت في ذكرى “يوم الأرض” في الثلاثين من مارس الماضي، وتواصلت حتى يوم الجمعة الماضي؛ لم تجر أية مراجعة بعد 26 يوم جمعة، كانت فيها 26 مسيرة اختلف تأثير أخرياتها، عن تأثير أولاها على كل صعيـد.
فعقب مسيرة يوم الأرض (30 مارس 2018) أعلن رئيس السلطة محمود عباس الحداد، وفي خطاب عباس مساء يوم الخميس 27 سبتمبر 2018 لم يتطرق الرجل بحرف إلى “المسيرات”، وهو يعلم أن يوم الجمعة التالي سيشهد مقتلة للمشاركين على حدود قطاع غزة. فقد ضنّ عليهم الرجل بالرأي، ولم يكن مستعداً حتى لطرح رؤيته، أو نصيحته إن كانت لديه نصيحة، أو تفسيراً لظاهرة الغضب الشعبي في غزة. ما فعله هو العكس، وهو التركيز على خصومته مع حماس، وتناول أمرها بلغة تشبه الحسم.
أحداث يوم 14 مايو 2018 الدامية، التي جاوز فيها عدد الضحايا الستين، وعدد الجرحى 2500 إنسان، ومعظم أولئك من الفئات العمرية الصغيرة؛ كان لها تأثيرها على الصعيد الدولي، ليس على صعيد التذكير بأصل الرواية الفلسطينية التاريخية ونتائجها فحسب، وإنما أيضاً على صعيد إظهار طبيعة الممارسات الإسرائيلية التي طاولت أرواح مدنيين يتظاهرون سلما.
ولم تكتف حماس ومن شاركوا معها في الدفع إلى المسيرات، بذلك اليوم الأليم، وإنما حاولت اقتناص بعض التهيؤ الشعبي للاحتشاد في الجمع التالية، بتطوير المسيرات ودفعها إلى أقصى نقطة قبل السلاح، بتكثيف إحراق الإطارات وإطلاق الطائرات الورقية الحارقة، ما جعل المحتلين يروجون للمنحى الهجومي، ويعلنون عن جاهزية “القبة الحديدية” ويحشدون جيشهم ويتقدم عُتاة الساسة المتطرفون، لكي يسجلوا لأنفسهم أمام جمهورهم، مآثر تحاكي مآثر مؤسسي إسرائيل الأوائل، وهذا كله ذو منحى يختلف عن مواجهة تظاهرات شعبية سلمية لا تتهدد إسرائيل في شيء. ومع ذلك التحول، بدأت الاتصالات، وكأن توترا مسلحا أو احتكاكا يجري ويتطلب التسوية، وانفتحت سوق المداولات في هذا الشأن، وبدأ ما يسمى مفاوضات التهدئة التي جَرّت معها التكهنات الموصولة بفرضية “صفقة القرن” وانتفخ البالون!
ليت هذا البالون انتفخ في مناخ احتفالي، لكي يعزز وحدة الفلسطينيين، ويخفف أحزانهم، ويوقف خسائرهم، ويجعل الدم المسفوك سبباً في تقارب سياساتهم، ويدفع إلى مراجعات لاستثمار الخسائر في حسبة السياسة على المسرح الدولي، والتركيز على كل شهيد، وتظهير ملامح إنسانيته، وعلائم الألم الأسري على وجوه أهله الذين فقدوه، وهو فلذة كبدهم.
ما جرى هو الاستمرار في المكابرة، وإن اقتضى الأمر اقتراب أحد متزعمي الفصائل من الحدود، لبُرهة من الوقت، في نقطة مختارة، فإن ذلك يكون لدفع مظنة تلاحقهم وهي أنهم ينأون بأنفسهم وأبنائهم.
وفي خضم هذا كله، بدا المحتلون أكثر استعداداً للقتل، وتوفرت لهم الذرائع حسب منطقهم المضلل، كأن يقال بأن هذه المسيرات هجومية، تحمل إليهم طائرات حارقة وغمامات مسمومة، لا جواب عليها سوى طائرات أف 35. في الأثناء، لم يقترب منظمو “المسيرات” من فكرة المراجعة ولا حتى أسلوب أداء المحتشدين، على النحو الذي يزيد الطابع الإجرامي للمحتلين افتضاحاً. ظل يرادُ لمسيرة كل جمعة، أن تبرهن على أن “الجهاد” ماض إلى يوم القيامة. والقوم لا يحسبون ولا يقرأون، وليس لديهم الاستعداد للمقارنة بين الخسائر والأرباح.
في البداية، كان الاعتراض على مسيرتي 30 مارس و14 مايو، يفتقر إلى الوجاهة، أما الإصرار على المسيرات التي بعدها، فقد أحدث انقساماً في الرأي، بينما الساحة الفلسطينية التي شبعت خسائر، ليست في حاجة إلى انقسامات ولا إلى جنائز!
*العرب – عدلي صادق – كاتب وسياسي فلسطيني .