أقلام وأراء

عثمان ميرغني: لماذا يحتاج السودان إلى نظام رئاسي؟

عثمان ميرغني 25-9-2025: لماذا يحتاج السودان إلى نظام رئاسي؟

على مدى عقود، عانى السودان من أزمة حكم مستفحلة، تراكمت عليه خلالها المشاكل نتيجة عدم الاستقرار ومتوالية الحكومات الديمقراطية التي لا تعمر، فتسقطها أنظمة عسكرية، تطيحها انتفاضات شعبية. وبقي الناس في انتظار نظام سياسي مستقر، قادر على توحيد البلاد، ومنح المواطنين فرصة حقيقية لممارسة الديمقراطية. كل تجربة برلمانية في السودان كانت قصيرة الأجل، تنهار تحت وطأة الائتلافات الهشة، والانقسامات الحزبية، وضعف المؤسسات، ما يجعلنا أمام حقيقة واضحة: استنساخ نموذج وستمنستر البرلماني فشل، ما يستدعي إعادة النظر والبحث عن نمط الحكم الملائم للبلد وظروفه.

تقديري أن ما يحتاج إليه السودان هو اتباع نظام الحكم الرئاسي الذي يوفر قيادة تنفيذية قوية، ومساءلة أوضح، وقدرة أكبر على الصمود في مواجهة الأزمات. فهذا ربما يكون الطريق لديمقراطية راسخة وضمان استقرارها. فالديمقراطية ليست قالباً واحداً أو قميصاً جاهزاً يناسب كل القياسات. نظام وستمنستر الذي تجذر في بريطانيا يقوم على تقاليد راسخة وأحزاب منضبطة ومؤسسات مستقرة. السودان لا يملك هذه الشروط بعد، والإصرار على تكرار نمط وستمنستر هو بمثابة البناء على الرمال.

صحيح أن هذا النظام نُقل وطُبق في دول أخرى مثل كندا والهند وأستراليا، وصمد بدرجات متفاوتة من النجاح، لكنه أيضاً فشل في دول أخرى عديدة منها غانا وزامبيا وعراق ما قبل 1958، على سبيل المثال، بعد معاناة من التشرذم السياسي وعدم الاستقرار والانقسامات وضعف الأحزاب.

تاريخ السودان السياسي أظهر مدى عدم ملاءمة النظام البرلماني للبلاد. بعد الاستقلال عام 1956، تبنّينا نموذج وستمنستر، لكن البيئة السياسية كانت ضعيفة، والأحزاب هشة، بينما لم تتح الفرصة للنظام الديمقراطي لكي ينمو ويتجذر. بدلاً من استقرار الحكم، شهد السودان تغير الحكومات بشكل متكرر وسقوطها المتوالي. فلم يمضِ عامان على الاستقلال حتى أطاح انقلاب عسكري بالتجربة الديمقراطية الأولى.

وتكررت المأساة نفسها في الفترات اللاحقة. في 1964 ثم في 1985 أطاحت الانتفاضات الشعبية بالأنظمة العسكرية وأعادت النظام البرلماني، لكن سرعان ما أدى الصراع بين القوى الحزبية إلى انهيار التجارب الديمقراطية. وفي كل مرة، كان الانقلاب العسكري يتقدم لملء الفراغ.

أما تجربة ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 التي أطاحت نظام البشير، فلا تزال فصولها تكتب بعدما تعثرت الفترة الانتقالية القصيرة نتيجة مرض الخلافات السياسية المزمن، والمكايدات التي لا تعرف سقفاً، ما قاد البلاد إلى الحرب الطاحنة الراهنة.

التجارب تؤكد أن النظام البرلماني يحتاج إلى أحزاب قوية، قادرة على ترسيخ الممارسة الديمقراطية وتشكيل حكومات مستقرة. لكن في السودان، بقيت معظم الأحزاب تدور في فلك الولاءات الشخصية أو الانقسامات الطائفية والقبلية أكثر من البرامج السياسية، فلم تنتج التجارب المتعاقبة إلا الاضطرابات وعدم الاستقرار.

لماذا النظام الرئاسي أنسب للسودان؟

النظام الرئاسي يوفر قيادة تنفيذية واضحة ومستقرة. فالرئيس المنتخب مباشرة يضمن استمرارية الحكم حتى مع انقسام البرلمان. يعرف المواطنون بوضوح من يمسك بزمام السلطة ومن يتحمل مسؤولية القرارات. بدلاً من سقوط الحكومات الائتلافية كل بضعة أشهر، يتمتع الرئيس بفترة حكم محددة، ما يتيح للدولة تنفيذ خطط طويلة المدى.

كما أن الفصل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية سيكون في الحالة السودانية عنصر قوة، لا عنصر ضعف. حين ينقسم البرلمان أو يعجز عن التوافق، تبقى السلطة التنفيذية قادرة على العمل. وفي بلد يواجه الحروب والأزمات الإنسانية والفقر وتحديات التنمية، فإن استمرار عمل الدولة ضرورة وجودية.

إضافة إلى ذلك، يوفر النظام الرئاسي قيادة رمزية موحدة. فالرئيس المنتخب من الشعب كله، لا من أغلبية برلمانية هشة، يحمل شرعية وطنية عابرة للجهويات. وفي بلد واسع متعدد الأعراق والثقافات مثل السودان، قد يشكل هذا التفويض الشعبي نقطة ارتكاز لهوية وطنية جامعة.

السودان ليس وحيداً في هذه المعضلة. العديد من الدول واجهت السؤال نفسه: أي نظام يناسبها؟ الدول التي اتبعت النظام الذي يناسب بيئتها هي التي وجدت الاستقرار، بينما الدول التي استنسخت تجارب جاهزة لم تكن بالضرورة مناسبة لظروفها، عانت التخبط والفوضى.

لا شك أن النظام الرئاسي قد تكون له مشاكله أيضاً، والتاريخ السوداني فيه تجارب من الحكم الفردي والديكتاتورية العسكرية، وأي نظام رئاسي بلا ضوابط قد يعيد إنتاج الاستبداد.

لكن الحل ليس في رفض النظام الرئاسي كلياً، بل في تصميمه بحذر. يُمكن فرض قيود زمنية صارمة على فترات الحكم، وأن تكون هناك سلطة قضائية مستقلة قادرة على كبح التجاوزات، وأن يحتفظ البرلمان بسلطات رقابية، بما فيها إجراءات عزل الرئيس في الحالات القصوى.

السودان يستحق ديمقراطية تناسب واقعه وظروفه، ونظام حكم مستقراً يحميه من الفشل المستمر، والانقلابات المتكررة. النظام الرئاسي ليس معصوماً من الأخطاء بالتأكيد، لكنه فرصة حقيقية لكسر دائرة الفشل والانقلابات، إذا توفرت له الضمانات الكافية، وأدوات الرقابة والمحاسبة.

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى