أقلام وأراء

عبد المنعم سعيد : لـجـنـة تـحـقـيـق دولـيـة!

عبد المنعم سعيد : 30-12-2023

أحد القرارات المهمة، التي صدرت عن مؤتمر القمة العربية الإسلامية التي انعقدت في الرياض بتاريخ ١١ تشرين الثاني ٢٠٢٣، كان السعي إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية في الجرائم ضد الإنسانية منذ بداية حرب غزة الخامسة في ٧ أكتوبر ٢٠٢٣.
جميع القرارات الأخرى، مثل السعي نحو وقف فوري لإطلاق النار وتقديم المساعدات للشعب الفلسطيني في غزة، جرى فيها جهد أو آخر، حيث تم بالفعل السعي إلى قرارات في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة لإصدار قرارات في هذا الشأن، جرى إخفاقها بالفيتو الأميركي. وتم تشكيل لجنة من وزراء الخارجية، دارت على دول العالم الرئيسة لكي تشرح وتوضح القضية الفلسطينية والموقف العربي والإسلامي. وكذلك قامت الدول المشاركة في المؤتمر بتقديم قدر هائل من المساعدات للشعب الفلسطيني، لم يقلل منه إلا المماحكات الإسرائيلية في الدخول إلى القطاع. لجنة التحقيق وحدها هي التي – فيما أعلم – لم يرد لها ذكر، ولا متابعة، رغم أنها جزء مهم من المعركة السياسية والعسكرية الراهنة.
إسرائيل من ناحيتها قدمت للعالم، الأميركي والأوروبي خاصة، «سردية» تبدأ بأن تاريخ الحرب الراهنة يبدأ من ٧ أكتوبر؛ عندما أغارت قوات من تنظيم «حماس» الفلسطيني وحلفائه من تنظيمات أخرى مكونة من بضعة آلاف، على «غلاف غزة»، حيث قامت بقتل ١٢٠٠، (في البداية كان هناك إصرار على أن الرقم ١٤٠٠) من الإسرائيليين، أغلبيتهم من المدنيين، الذين كان من بينهم نساء وأطفال. وتمضي الرواية الإسرائيلية في القول: إنه جرَت في هذه الحالة فظائع لقتل أطفال أمام ذويهم، وقتل آباء وأمهات أمام أطفالهم، وكذلك جرَت حوادث اغتصاب للنساء، وسحل للرجال. ولا تنتهي السردية دون القول: إن فظاعة ما حدث لم تحدث منذ «الهولوكوست» أو «المحرقة»، تشبهاً بالجرائم الفظيعة التي ارتكبها النازيون إزاء اليهود في الحرب العالمية الثانية.
بيان القمة العربية الإسلامية، وكذلك بيان مجموعة الدول التسع (دول مجلس التعاون الخليجي الست، ومصر والأردن والمغرب) الذي صدر في أعقاب مؤتمر السلام، الذي انعقد في مصر، أكد إدانة كل الأعمال العنيفة، التي تجري إزاء المدنيين سواء من هذا الطرف أم ذاك. ولكن ما حدث هو أن السردية الإسرائيلية دائماً ما تجعل ذلك واقعاً من طرف واحد، وأن ما فعلته إسرائيل لم يكن أكثر من رد فعل ضد ما فعلته «حماس». ولكن الحقيقة هي أن التاريخ لم يبدأ من ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، وإنما بدأ منذ قيام دولة إسرائيل، وحتى مذبحة «دير ياسين» بدأت قبلها، ومنذ ذلك التاريخ فإن إسرائيل مارست كل أنواع العنف المخالف للقانون الإنساني، وكافة أشكال الحصار، من تجويع إلى منع المياه العذبة إلى الكهرباء، وغير ذلك من وسائل القمع. وفي الحرب الحالية جرَت أكبر عملية اعتصار تجاه سكان غزة جميعاً، حتى ولو كان الهدف الرئيس هو القضاء على حركة «حماس». القضية التي باتت مسيطرة على التفكير إزاء حرب غزة الخامسة باتت أولاً نتيجة الغزوة البرية الإسرائيلية للقطاع، بعد أن قامت الغزوة الجوية بتهجير أكثر من 1.9 مليون نسمة فروا من شمال غزة إلى جنوبها، وقتل ٢٠ ألف نسمة، وأضعافهم من الجرحى، ومعهم دكّ آلاف من المباني والمنشآت، ومنها مؤسسات صحية. ومع ذلك انتهز المستوطنون في الضفة الغربية الفرصة لقتل قرابة ٥٠٠ من الفلسطينيين خلال النصف الأول من العام، وطرد عشرات من ١٣ قرية في الضفة الغربية.
عمليّاً كانت مشاهد النكبة متكررة في غزة والضفة الغربية معاً، ولا توجد لدينا هنا نية لمتابعة ما ارتكبه الجانبان من فظائع، ولكن ما يهمنا هو أن إسرائيل لم تتوانَ أبداً في استخدام سرديتها الخاصة في عواصم العالم المختلفة في تكنيك دعائي يجعل الحديث دائماً مماثلاً لما جرى أثناء «الهولوكوست»، والوارد في العديد من الروايات والأفلام السينمائية.
الحديث الإسرائيلي الدائم هو أنها عرضت على مَن يعنيها أمرهم صوراً وتسجيلات لما فعلته «حماس» خلال ٢٤ ساعة فقط من عملية ٧ أكتوبر. ولكن إسرائيل على الجانب الآخر اتبعت أسلوباً يبدأ أولاً بالتشكيك في الأرقام الخاصة بضحايا غزة، وما ارتُكب فيها من جرائم، خاصة إزاء البالغين بالنزوح والترويع والتجويع، والأطفال بالحرمان من الحضّانات أو القتل المباشر، أو الدفن تحت الأنقاض. ما يهمنا في الأمر هو أن الأمر كله يحتاج لجنة تحقيق دولية للنظر فيما حدث بشكل محايد وموضوعي؛ لأن في ذلك إقراراً للعدالة واحتراماً للتاريخ. ولحسن الحظ أن وزارة الصحة الفلسطينية في غزة قد سجلت أسماء الوفيات والجرحى، وهي التي استخدمتها التظاهرات المناصرة للقضية الفلسطينية في العالم للبرهنة على ما جرى.
سلوك إسرائيل إزاء إنشاء لجنة تحقيق دولية رافض دائماً، وهي تجعل ذلك امتداداً لرفضها كافة القرارات الدولية التي تصدر عن الأمم المتحدة؛ على أساس أن هناك تكتلاً دوليّاً من الدول العربية والإسلامية المعارضة لإسرائيل دائماً يأخذ بصورة آلية مواقف مضادة لإسرائيل، ويشكل أغلبية دولية منحازة ومعادية لإسرائيل. الجديد في الأمر أنه عندما جرى ذلك في الدول الغربية، اعتبرت إسرائيل ذلك نوعاً من «معاداة السامية» المتأصلة في هذه الدولة أو تلك. ولكن كل ذلك لا ينبغي له أن يقلل من الجهد الساعي لتكوين لجنة تحقيق دولية فيما جرى على إسرائيل والفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية.
وفي تاريخ ما بعد الحرب العالمية الثانية جرَت «محاكمات نورمبرغ» للقيادات النازية التي ارتكبت جرائم ضد الإنسانية، شملت تلك التي كانت مضادة لليهود وعُرفت باسم «الهولوكوست». وفي التاريخ القريب كان التحقيق وتقديم المسهمين في الجرائم ضد الإنسانية إلى المحاكمة من الأمور التي أدت إلى إمكانيات التسوية السياسية للأزمة، ورأب ما فيها من صدع بتقديم التعويضات، أو القيام بالإعمار. حدث ذلك في التسعينيات من القرن الماضي عندما جرَت المحاكمات الخاصة بمذابح رواندا وبوروندي وسيراليون في إفريقيا، والمحاكمات الأخرى التي جرَت بعد تفكك الدولة اليوغسلافية عندما ارتكبت المذابح في «البوسنة والهرسك»؛ وبعد ذلك في «كوسوفو».
اليوم لا يمكن لإسرائيل أن تتخلص من نتائج أعمالها، فضلاً عن الاعتراف بحدوثها. والغريب في الأمر أن إسرائيل باتت تستخدم أسلوباً مخادعاً عند الحديث مع الدول الغربية، التي بعد أن ساندت إسرائيل وقدمت لها العون، أخذت في مطالبة إسرائيل بتقليل درجات عنفها، وقبول عودة السلطة الوطنية الفلسطينية لحكم غزة.
ما كان مدهشاً هو أن إسرائيل بدأت في معاندة الدول الغربية بأنها لم تفعل أكثر مما فعلته هذه الدول من مخالفات ضد الإنسانية عندما قامت بتدمير درسدن وطوكيو في نهايات الحرب العالمية الثانية. وللحق، إن إسرائيل لم تُشِرْ إلى استخدام الولايات المتحدة للقنبلة الذرية في هيروشيما وناغازاكي، ربما لأن بعض أركان النخبة السياسية الإسرائيلية هدد أيضاً باستخدام الأسلحة النووية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى