أقلام وأراء

عبد المجيد سويلم يكتب –  كيف دخلت إسرائيل في الحائط ؟

عبد المجيد سويلم – 17/5/2021

في الآونة الأخيرة بدأت إسرائيل بالدخول في مرحلة جديدة. إنها مرحلة تحوّل الفرص إلى ورطات متتالية.

اعتقدت إسرائيل أن عهد ترامب هو عصرها الذهبي، وأن وعده بالقدس “عاصمة موحَّدة لإسرائيل” قد تحقق تماماً، ولم يتبق منه سوى بعض الرتوش الصغيرة، أو التشطيبات الاستكمالية.

واعتقدت إسرائيل أن “التطبيع العربي معها، والذي وصل إلى حدود التماهي مع سياساتها وأطروحاتها وروايتها” قد فتح أمامها الطريق واسعاً لتصفية القضية الفلسطينية، والإجهاز على حقوق الشعب الفلسطيني، والاستفراد به، وفرض المشروع الصهيوني عليه، وإجباره على مقايضة لقمة عيشه بالتخلي عن هذه الحقوق.

واعتقدت إسرائيل أن “فتات” المساواة سيسحب البساط من تحت أرجل الأهل في الداخل الفلسطيني، وأن مجرد زيادة صغيرة في “الميزانيات”، سوف تبعدهم عن حقوقهم القومية.

واعتقدت إسرائيل أن قطاع غزة سيكتفي في النهاية بالمخصصات التي تمررها إسرائيل شهرياً، وأن بعض “المشاريع”، وبعض الهبات والعطايات من هنا وهناك سيجلب لإسرائيل الهدوء والتهدئة، وأن التهام الضفة، والإطباق على القدس، لن يثير أكثر من زوبعات صغيرة.

واعتقدت إسرائيل أن تحويل الضفة إلى معازل قد أصبح أمراً واقعاً، وأن لا خيار أمام الفلسطينيين فيها سوى “التكيُّف” مع هذه المعازل، وأن العودة إلى مشروع إنهاء الاحتلال باتت من الماضي، وأصبحت وراءنا.

واعتقدت إسرائيل أن الشعوب العربية قد “طلّقت” فلسطين كما فعلت الأنظمة العربية، وأنها “أي الشعوب” لم تعد تكترث إلّا بعوزها وفقرها ولقمة الخبز التي سُرقت منها، ولم تعد تأبه بحرّيتها وبكرامتها الوطنية أو القومية بسبب حرمانها منها على يد أنظمة الاستبداد والاستعباد والفساد.

واعتقدت إسرائيل أن العالم نائم ومُغيَّب، لأن فيه ما يكفيه، وتغيرت أولوياته، ولديه أزماته ومشكلاته، وهو أبعد ما يكون اليوم عن مناصرة الحقوق أو التصدي للإجرام والعدوان والبلطجة.

والقول الفصل عند إسرائيل هو ما تقوله أجهزة الأمن، وما “تؤكده” لها مراكز الدراسات والبحث والاستقصاء، وما تقدمه لها وسائل الإعلام المنفلتة من عقالها بالكامل، والتي لا ترى في كل ما يحدث، وكل ما يعتمل تحت الرماد، وكل ما يتراكم من انتهاكات سوى هوامش باهتة، وتبعات ثانوية وصغيرة.

إنه غرور الاستعلاء والعنجهية، وغباء العنصرية وصلفها، وهو الذهنية الاستشراقية الخرقاء، وهو مركّبات التفكير الاستعماري البغيض.

ربما أن إسرائيل لم تهزم بعد، وربما أن في جعبة المشروع الصهيوني ما يكفي ويفيض من مكامن القوة والجبروت، لكن الأمر المؤكد الآن أن هزيمة ساحقة وماحقة قد لحقت بهذه العقلية، وأن رؤوساً كبيرة في إسرائيل ستسقط في قادم الأيام القريبة.

لو أن في إسرائيل فرصاً كافية للمحاسبة الحقيقية على الإخفاقات التي أدت إليها هذه الإخفاقات ـ والحقيقة أن اسرائيل ليس فيها بعد مثل هذه الفرص ـ لقامت الدنيا ولم تقعد، ولسيق قادتها إلى المحاكم بتهمة المقامرة بالمصير الإسرائيلي كله من أجل مصالح طبقة سياسية فاسدة وكاذبة ومضلّلة.

استطاع نتنياهو أن يجرّ الدولة كلها، والجيش وأذرع الأمن إلى اللعب في ميادين خطرة، خدمة لليمين الفاشي الأخرق، ودفاعاً عن الرصيد السياسي لهذا اليمين، وخوفاً على فشله الكبير، وصوناً لكرسي الحكم، ومقاعد انتخابية علّها تأتي.

واستطاع نتنياهو أن “يزيّن” للإسرائيليين، أو ربما للأغلبية منهم بأن قضم القدس والتهامها بالكامل أصبح متاحاً وضرورياً، وأنه سيخمد غزة إلى غير رجعة، وأن يبعثر الحالة الوطنية في الداخل مرة وإلى ما “شاء الله”، وأن يدجّن الضفة ويدخلها في صراعات “الولايات” المتناحرة، تماماً كما بات يضمن سكوت العرب من المحيط إلى الخليج، وأن “يضمن” تخاذل العالم وسكوته عن كل جرائمه.

هذه هي الفرص التي حاول نتنياهو أن يسوقها أولاً، على أعوانه من باقي قطعان المستوطنين، وثانياً، على شركائه في اليمين الفاشي، وعلى مساعديه من اليمين الديني والقومي المتطرف والأشدّ تطرفاً، وعلى الإسرائيليين في كل مكان وحزب وشارع وزقاق.

فماذا كانت النتيجة، وما هو الحصاد الحقيقي حتى الآن؟ إخفاق وفشل كامل في ردع غزة، وإخفاق أكبر في القدرة على فرض أي شروط، والبحث عن ماء الوجه لوقف إطلاق النار، وعودة الأمور إلى ما كانت عليه في أحسن الأحوال، وبقاء سلاح غزة مشرعاً في وجهه طالما أنه مستمر في سياساته العنصرية والعدوانية.

لم يكن سلاح غزة قبل هذا الإخفاق، وقبل أن يصبح هذا السلاح على درجة حقيقية من التهديد سلاحاً رادعاً بما يكفي، وكانت إسرائيل تسعى إلى تقليم أظافر غزة دون أن “تضحي” ببقائها منفصلة عن الجسد الفلسطيني، وكانت لا تتردد في ضربها إذا دعت “الحاجة والضرورة”، وكانت تحافظ على واقعها على قاعدة “الأمن مقابل الغذاء والبقاء” فإذا بالأمر ينقلب على رأس إسرائيل، ويتحول معظم مناطقها إلى هدف مباشر لسلاح غزة.

بل وتحول سلاح غزة موضوعياً ـ وبغض النظر عن رأي البعض ـ إلى أحد العناصر المهمة في مجمل الحالة الوطنية الشاملة.

كان نتنياهو وأعوانه ومساعدوه أمام سلاح تحت دائرة التحكم، أو في إطار لعبة التوازنات والحسابات الإسرائيلية للإبقاء على الانقسام فإذا بإسرائيل أمام معادلة كبيرة وجديدة، عنوانها الالتحام ـ عند الضرورة ـ في معركة وطنية شاملة في المواجهة والتحدي.

أما الإخفاق ـ الذي ما بعده إخفاق ـ فهو اعتقاد اسرائيل وأجهزتها الأمنية أن نماذج منصور عباس، أو من هم على شاكلته، والباحثين واللاهثين وراء فتات الميزانيات هم النموذج “القادم”، وأن زمان الحقوق القومية قد ولّى، وأن الحركة الوطنية في الداخل في طريقها إلى الهزيمة. فماذا كانت النتيجة؟

سواعد شابّة سمراء وشجاعة، خرجت لهم من باطن الأرض وقلبت كل الموازين وحسمت كل الخيارات، وأطاحت بكل نماذج الوهم الصهيوني لأكثر من سبعين عاماً من التفكير الاستشراقي الأبله.

طار “التعايش” بشروط الإذلال القومي، وطارت “المساواة” القائمة على حفنة من الميزانيات، وطار قانون القومية الذي يفرض العنصرية والتمييز والأبارتهايد، وبقيت الرايات الفلسطينية هي سيدة المشهد الحقيقية.

كيف لأجهزة استخبارات أن تبقى قائمة في دولة تعتمد في كل كيانيتها ووجودها وسياساتها على الأمن وتفشل كل هذا الفشل؟

وكيف استطاع اليمين أن يحجب بالكامل رؤية بعض القائمين في هذه الأجهزة والذين كانوا يحذرون من “الخداع” في رؤية المشهد وقراءته؟!

وأين حُسن التقدير لانتفاضة الضفة، ولوحدة الشعب الفلسطيني من الناقورة وحتى رفح، ومن النهر إلى البحر؟

بل أين الحد الأدنى من سوء التقدير طالما أن سوء التقدير هو السمة العامة للحالة الإسرائيلية كلها؟

وأين وأين وأين في كل مجال وعلى كل مستوى؟

كل إخفاق من هذه الإخفاقات هو بمثابة كارثة وأزمة كبرى.

هذه الإخفاقات هي عنوان لمرحلة جديدة، وهي عناوين لكتابات كثيرة قادمة.

ولتستعد النخب الفلسطينية ومنذ الآن لقراءة المشهد الإسرائيلي في ضوء هذه الخيبات والإخفاقات المدوّية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى