أقلام وأراء

عبد المجيد سويلم: قرار مجلس الأمن 2803: ما له، وما عليه!

عبد المجيد سويلم 20-11-2025: قرار مجلس الأمن 2803: ما له، وما عليه!

أعترف بأن الكتابة عن قرار مجلس الأمن 2803 تنطوي على صعوبة بالغة لأسباب لا تحتاج إلى شرح وتوضيح، وأعترف، أيضاً، بأن هذا القرار يحمل في طيّاته من الدلالات والمعاني ما يفوق بكثير، وما يتفوّق به على قرارات سابقة صادرة عن المجلس، وذلك لما ستكون له، أو ما يتوقّع أن تكون له من تبعات مرشّحة لأن تشكّل ــ أي التبعات ــ ما يتجاوز مفهوم المَفصّل والمُفترق نحو مرحلة جديدة من الصراع في الإقليم، ونحو حالة فلسطينية جديدة، أيضاً، وبما يتخطّى كل التصوّرات السابقة حول مستقبل هذا الصراع، ومخرجاته العملية في الإطار الفلسطيني الخاص والمحدّد.

أوّلاً وقبل أيّ شيء آخر، فإن هذا القرار لم يكن ليرى النور لولا تضحيات الشعب الفلسطيني وبطولاته، وحالة الصمود الأسطوري التي سطّرها، بصرف النظر عن كل الملاحظات التي يمكن أن تساق، رفضاً أو تحفظاً أو قبولاً وتقبّلاً.

وثانياً، فإن من أخطر المراهقات السياسية أن يأتي هذا القرار ليعزّز من حالة الانقسام القائمة في الحالة الوطنية، وعليه وعلى أساسه لا يجوز لأحد، كائناً من كان أن يعتبر مسألة القبول أو الرفض سبباً لمزيد من الانقسام والشرذمة، تماماً كما لا يجوز لأحد اعتبار الموقف من هذا القرار وكأنه نهاية التاريخ.

وثالثاً، علينا أن نعترف مسبقاً بأن فلسطين بعد هذه الحرب الإبادية الطويلة قد خرجت من تحت مقصلة التحالف الأميركي الصهيوني، كما كان عليه الأمر قبل «طوفان الأقصى»، وهي الآن واجهة عالم التحرّر والعدالة والحقّ، وهي وجهة شعوب الأرض قاطبة، وبذلك فإن علينا أن ندرك بكل عمق ممكن أنه لولا الهزيمة الإستراتيجية التي مُنيت بها دولة الاحتلال، رغم الكثير من النجاحات الميدانية لما أمكن أن يصدر عن مجلس الأمن سوى قرار واحد ووحيد وهو التوقيع على وثيقة استسلام تتوّج الانتصار الإسرائيلي في هذه الحرب العدوانية.

أما رابعاً، فإن الرفض العدمي للقرار لا يغيّر شيئاً فعلياً في وجهة الصراع، وأن المبالغة بالترحيب به على الطريقة التي رأيناها في موقف الرسمية الفلسطينية إنما هما التعبير الأعمق عن أزمة الإستراتيجية الوطنية في هذه المرحلة، وعن هشاشة المواقف التي يمكن أن تحوّل فعلياً هذه التحديات إلى فرص نحو مرحلة جديدة من مراحل هذا الصراع.

خامساً، إذا لم نرَ الموقف الإسرائيلي على حقيقته، فهذا يعني أننا لم نتعلّم في السياسة ما يكفي، أو ما يؤهّلنا لحسن الاستثمار، وأن ما نبحث عنه ما زال البقاء والدور، وليس المصالح العليا لشعبنا، ولا الفرص المتاحة للخروج من دائرة المزاحمة على آليات التحكّم والسيطرة على الحالة الوطنية.

دولة الاحتلال يا سادة تكذّب عندما تدّعي أنها توافق على القرار، وهي تدرك أن حالها ــ في النسخة العنصرية منها ــ لا يختلف كثيراً عن حالة تجرّع السمّ على مضض.

لو كان ممكناً أن نضع القيادات الإسرائيلية الحاكمة الآن أمام ماكينة الكذب لخرجنا بفضيحة مدوّية.

القرار، بصرف النظر عن الكثير من المخاوف، ورغم عشرات المحاذير المفترضة فيه ومنه، الآن، وفي المدى المرئي كسر ثلاث «مسلّمات» إسرائيلية كل واحدة منها أكبر من الأخرى.

الأولى، الانتهاء الرسمي، أو إغلاق الطريق نهائياً على حرب الإبادة، ولم يتبقّ لدولة الاحتلال بعد القرار، وبالنقاط الملموسة لآليات تنفيذه إلّا هوامش صغيرة، ومتناهية الصغر حتى للاستمرار في عملياتها العسكرية العدوانية المحدودة في القطاع على الطريقة اللبنانية.

والثانية، الفشل في الاعتماد على ميليشيات «محلية» كبديل محتمل عن وجود السلطة الوطنية أو الفصائل بما فيها حركة «حماس»، وكل ما ذكر من نقاط تتصل بهذا الأمر ينسف مقولة «لا فتحستان، ولا حماسستان» من أساسها، ومن الواضح، وبصرف النظر عن «اشتراطات» دور السلطة الوطنية ودور الفصائل، فإن «اليمين» الإسرائيلي قد انهارت مراهناته على هذا الصعيد، وكل ما تبقّى له من «اللعب» هو أن يذهب في عملية عسكرية همجية مكشوفة الهدف والمعنى في مخيم عين الحلوة جنوب لبنان، أو أن يقوم بعقد «اجتماع» لقادة الميليشيات التي أنشأها ليقنع ناخبي «اليمين» الفاشي الخائب بأن دولة الاحتلال ما زالت موجودة في الميدان!

وأما الثالثة، وهي الأكبر والأهم، فإن دولة الاحتلال مع صدور هذا القرار، تكون قد فهمت بعمق شديد، وبعمق لا أعمق منه، بأن دورها الإقليمي قد انكفأ بصورة دراماتيكية بسبب إخفاقها الأكبر في «الطوفان»، وطوال عامين كاملَين من هذا الإخفاق، وما بعد انتهاء حرب الإبادة، دون أن تتمكن من حسم أي من ملفات الإقليم، ودون أن تتمكن من تجنب ما لحق بها من عار وعزلة دولية، ودمار وخراب وتفكّك.

والرابعة، هي أن دولة الاحتلال، في ضوء إخفاقاتها الإستراتيجية المعلنة والمفضوحة، باتت تسلّم من الناحية العملية المباشرة بأن قرارها بات في واشنطن، وأنها لم تعد صاحبة قرارها الخاص، وهذه المسألة أصبحت تقال على رؤوس الأشهاد، وليس في الغرف المغلقة.

وليس بمقدور الحالة الوطنية الفلسطينية أن تقرأ إرهاصات المرحلة الجديدة القادمة دون أن تعي بعمق لا يقل عن عمق فهم الحالة الإسرائيلية ما دفع الولايات المتحدة الأميركية إلى الذهاب باتجاه إعلان شرم الشيخ، ثم باتجاه قرار مجلس الأمن.

حرب الإبادة، أو الإخفاق الإسرائيلي، وحجم الإجرام الإسرائيلي الذي حمته أميركا، وأشرفت عليه، وغطّت على كل جرائمه وفظاعاته وأهواله، أوقعت أميركا في نسختها «الترامبية» في مأزق خطير ومصيري. وقد تحوّلت حرب الإبادة إلى خطر مباشر على بقاء «الترامبية» من عدمها، وأصبح الحزب الجمهوري مهدّداً بفقد مساحات واسعة من دائرة دعمه الشعبي، وبات سقوطه في الانتخابات النصفية مرجّحاً للغاية، وبات استلام الحزب الديمقراطي لمقاليد الحكم بعد ثلاث سنوات ممكناً ومتاحاً، مع فارق كبير وخطير هذه المرّة، وهو أن الجناح المتصهين في الـ»الديمقراطي» قد فقد قدرته على استلام دفّة الحزب، وعلى الأغلب فإن الجناح اليساري، والشاب، وربما بعض الأطراف الوسطية فيه هي المؤهّلة للقيادة.

هذا من ناحية، وهي مصيرية كما هو واضح، أما من ناحية ثانية، فإن الاقتصاد الأميركي لم يعد قادراً على الاستجابة لإستراتيجية وخطة «أميركا العظيمة» في ضوء خسارة الحرب في أوكرانيا، وخسارة المبارزة الاقتصادية مع الصين، والفشل المدوّي للسياسات «الجمركية»، أو التراجع المشين عنها، وفي ظل الفشل «الترامبي» في بلورة أي إنجاز كبير، وحقيقي حتى الآن.

وترامب ما زال الحليف الأوثق لدولة الاحتلال، لكنه الحليف الذي لم يعد يحتمل أن يخسر كل شيء لإرضاء حكومة التطرّف والعنصرية في دولة الاحتلال، ولم يعد مستعدّاً «للتضحية» بالعالمَين العربي والإسلامي من أجل بن غفير وسموتريتش، ومصالح بلده، رغم هشاشة وضعف الموقف العربي والإسلامي، باتت أكبر وأخطر من أن يتمّ المساس بها جذرياً بعد أن تحوّل إقليم الشرق الأوسط إلى الحصن الأخير لأميركا بشكل عام، والقلعة الأخيرة لـ»الترامبية» على وجه التحديد والخصوص.

وعلى أساس كل ذلك قرار 2803 ليس منّة من ترامب، وهو قد حاول أن يكون بأقلّ الخسائر على دولة الاحتلال، وبأفدح الخسائر على الشعب الفلسطيني، ولكنه بات محكوماً باعتبارات لا يستطيع تجاوزها أو القفز عنها.

الثغرات الكامنة في القرار كبيرة، خصوصاً حالة الضبابية التي تربط ما بين نزع سلاح القطاع والانسحاب الإسرائيلي، وفي منطق الابتزاز الواضح فيما يسمّونه «إصلاح السلطة»، وكذلك المساحة الرمادية حول إعادة الإعمار، خصوصاً لجهة المناطق التي ستحظى بأولوية زمانية لهذا الإعمار، وهي المناطق التي تتواجد فيها قوات الاحتلال.

مقابل هذه المحاذير الكبيرة هناك إمكانيات كبيرة لانفراجات واسعة في تدفّق المساعدات، وإعادة تأهيل البنى التحتية في مجالَي الصحة والتعليم، وفي الكثير الكثير من المجالات التي يحتاجها قطاع غزّة على وجه السرعة.

من حق الفصائل، بل والشعب كلّه أن يخشى مسألة الوصاية، وأن يقلق من خطرها، ومن حق الفصائل المسلّحة أن تخشى على تحويل هذه المسألة إلى خطر مباشر عليها، وأن تتمسّك بآلية وطنية حول هذا السلاح، وحول دور هذه الفصائل، لكن أمراً واحداً به بات يحتاج إلى الانتباه الشديد، وهو أن الوصاية المباشرة ستقود إلى تعطيل القرار، وأن تدويل الحل هو في الجوهر مصلحة فلسطينية كبيرة، وبقدر ما تضيق المساحة بين الوصاية والتدويل بقدر ما تُتاح أمام شعبنا إمكانية تحويل التهديد إلى فرصة سياسية كبيرة ــ وهو ما سنحاول مناقشته لاحقاً ــ لأن آخر شيء تريده أميركا، وتريده دولة الاحتلال هو تدويل الحلول، بما في ذلك قضايا الحلّ الجاري، وليس فقط الحلّ السياسي الذي ذكر في القرار.

هذا القرار هو اختبار للحالة الوطنية كلها، إن كان لجهة الانقسام، أو لجهة الاستثمار الفعّال للفرص التي يوفّرها، أو لجهة نضج الحالة الوطنية في إدراك التطوّرات التي تعصف بالعالم وبالإقليم.

في هذا القرار، هناك من القضايا ما يجب رفضه والتحفّظ عليه، بل ومقاومته إذا لزم الأمر، هي قضية الوصاية و»الانتداب»، وهناك من القضايا ما لا يجوز تجاهله، والقفز عنه بحكم موازين القوى القائمة، والاحتياجات الملحّة لشعبنا في القطاع، وهناك من القضايا ما يجب التمسّك به، والحفاظ عليه، والاستناد له في تطوير العملية الوطنية نحو أهدافها الوطنية.

لا يوجد بحكم تشابكات المرحلة وتعقيداتها وملابساتها وتداخلاتها قرار جيّد وممتاز، وقرار سيئ ومرفوض، والذي أمامنا هو قرار يُحسن التعامل معه، والاستثمار في إمكانياته المتاحة.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى