عبد المجيد سويلم: عن الدور الإقليمي لـ «العربية السعودية» مرّة أُخرى
عبد المجيد سويلم 2023-05-04: عن الدور الإقليمي لـ «العربية السعودية» مرّة أُخرى
قبل كلّ شيء فإن الدور الإقليمي للمملكة العربية السعودية في الواقع القائم، وما ينطوي عليه هذا الدور في المستقبل المنظور ما زال قيد التبلور، وهو يُقرأ كاتجاه أو نزعة ــ وهو يجب أن يُقرأ كذلك ــ ليس فقط لأنّ مثل هذا الدور قد يتعرّض لإعاقات، قد تكون كأداء، وقد تنطوي على تراجعات معيّنة، وإنّما لأنّ هذا الدور “مرصودٌ” من قبل “الغرب” كلّه، وقد لا تكون “مواجهة” مثل هذا الدور مواجهة “ناعمة”، وذلك بالنظر إلى الأهميّة الإستراتيجية الكبيرة لـ “العربية السعودية” في العالم عموماً، وفي “الإقليم” على وجه التحديد والخصوص.
جوهر ومضمون هذا الدور هو أن “العربية السعودية” في ظلّ تولّي وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان لمفاصل الحكم والدولة في المملكة، وما بات يُعرف عنه من معرفة وإلمام وإحاطة، وانفتاح على “الجديد” في عالم اليوم، وما بات مُعلناً من توجهات الأمير من ضرورات مُلحّة لتحديث الدولة السعودية، وتحديث المجتمع السعودي وبّما يتطلّبه كلّ ذلك من تشريعات وإصلاحات، وإجراءات، ومن تخطيط على المديات الثلاثة، المباشرة والمتوسطة والبعيدة.. في ظلّ هذا التغيّر الكبير والحاسم أصبح بالإمكان أن تلعب المملكة دوراً جديداً، رائداً وقائداً في منطقة على أعلى درجات الأهميّة للاقتصاد العالمي، ولحركة الملاحة الدولية لمنتجات الطاقة، وفي توفير الاستقرار المطلوب فيها، وأصبح بالإمكان الانتقال من دور “الإشراك” إلى الشراكة، ومن “الإملاء” إلى التفاهم والتعاون، ومن تعويم المصالح السعودية إلى تحديدها، ومن تماهي هذه المصالح في إطار المصالح الغربية الكبرى والخالصة إلى قواعد وأُسس جديدة في هذا التحديد.
فما هي هذه القواعد، وهذه الأُسس التي حتّمت وأفضت، وأدّت بالفعل إلى هذا الانتقال التاريخي الجديد؟
أوّلاً: أثبتت الوقائع لـ “العربية السعودية”، وبما لا يدع أيّ مجال للشكّ بأنّ الولايات المتحدة الأميركية ليس لها من الحلفاء الثابتين في كامل منطقة الإقليم سوى إسرائيل، بل وبات هذا الأمر بحدّ ذاته مطروحاً من زاوية: أيّ إسرائيل؟ تماماً كما هي مطروحة، أيّ أوروبا؟.
وقد تبين لـ “العربية السعودية” بوضوح تام، وبصورةٍ سافرة في فترات ومناسبات عدّة أن الولايات المتحدة لا تنظر إلى “العربية السعودية”، ولا لأيّ دولة عربية سوى كونها شريكاً خاصاً لأسباب اقتصادية أو مالية، أو شريكاً تابعاً للاستراتيجية الكونية لأميركا، وأنها ــ أي أميركا ــ لا تهتمّ بالمصالح الخاصة للبلدان العربية، وأن كل ما تعمل عليه [في إطار رؤيتها لهذه المصالح] ليس سوى الطريقة التي “تؤمّن” بقاء إسرائيل في موقع الهيمنة، والتفوّق، والعمل لكيّ يتكيّف الإقليم كله مع متطلّبات هذه الهيمنة، وبحيث تقوم إسرائيل بدور المدير التنفيذي للمصالح الأميركية والغربية، وتحصل بموجبه إسرائيل على نصيبها من الأرباح الهائلة التي تحقّقها الشركات الغربية، وخصوصاً الأميركية منها جرّاء التحكّم بقطاع الطاقة في عموم منطقة الخليج، وجرّاء مشتريات الأسلحة التي لا تستخدم إلّا لمصلحة “الغرب”، وجرّاء التحكّم بكل الفوائض المالية لمجموع الدول العربية في الخليج العربي، وجرّاء الأرباح الطائلة التي تجنيها الاقتصادات العربية من الأسواق الاستهلاكية الخليجية التي تُعتبر من أكثر الأسواق ديناميكية في العالم كلّه.
أدركت القيادة السعودية الجديدة بالوقائع الملموسة أن الحزبين “الديمقراطي” و”الجمهوري” الأميركيين، إن لم يكن على حدّ سواء، فمن دون أي فوارق جوهرية إنّما يعملان معاً، أو كل على انفراد من أجل الاستحواذ على الثروات السعودية والعربية.
الرئيس جو بايدن أراد أن يستخدم سلاح “الطاقة” في حربه ضد روسيا في أوكرانيا، والرئيس دونالد ترامب قال في مؤتمرات جماهيرية إن “ما تسمّى” الثروات السعودية هي أصلاً “زائدة” على حاجتهم، وهي ثروات تعود لـ “الغرب”، و”الغرب” هو مالكها الحقيقي، وتذكرون تهكُّماته المعيبة بهذا الشأن.
وأدركت “العربية السعودية” أن ترامب لم يلغِ الاتفاق النووي مع إيران “لسواد عُيون المملكة”، وإنّما لأنه أراد أن يضمن دعم “المسيحية الصهيونية” الموالية لإسرائيل، وأراد أن يقوّي مصالح “اليمين” في إسرائيل، ولم يتردّد في طرح “صفقة القرن”، و”ضم الجولان”، و”الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال” دون أيّ مُراعاة لأي دولة عربية بما فيها، وربّما على رأسها “العربية السعودية”.
وأما الحزب الديمقراطي، والرئيس بايدن فقد اعتبر قضية “خاشقجي” واحدة من مفاصل حملته الانتخابية، أو هكذا تمّ تصوير الأمور في بعض الأحيان.
وكما عمل ترامب على ترتيب صفقة “السلام الإبراهيمي” فقد واصلت الإدارة الحالية نهج وسياسة “التطبيع المجّاني” متناسيةً ومُغفلة بوعي وتخطيط أنّ ما يسمّى “السلام الإبراهيمي”، وباعتباره “البديل” عن السلام الحقيقي يضرّ بالمكانة الدينية المرموقة لـ “العربية السعودية”، ولدى أكثر من مليار ونصف المليار مسلم، وعند الغالبية الساحقة من البلدان العربية والإسلامية.
أي أنّ أميركا، و”الغرب” كلّه ظلّوا يتعاملون مع المملكة، وكأنّ العالم ما زال تحت إمرتهم وهيمنتهم، أو كأن على “السعودية” والعرب أن يندرجوا تلقائياً لدعم الولايات المتحدة في حروبها من أجل بقاء هذه الهيمنة، بل وطالبوا “العربية السعودية” أن ترفع إنتاج النفط، وتخفّض الأسعار من أجل “الغرب”، ومن أجل محاربة روسيا، وعلى حساب المصالح المباشرة للسعودية. ما يعني أنّ “الغرب”، وأميركا على وجه الخصوص لم يلحظوا ولا بأيّ شكلٍ أو صورة أن هناك شيئاً اسمه المصالح العربية.
ثانياً: عندما حاولت الولايات المتحدة إعطاء الطابع الرسمي لـ “التطبيع” من خلال صيغة أمنية ملموسة، واقترحت صيغة “الناتو الشرق أوسطي” تبيّن للسعودية أنّ الهمّ الرئيسي لأميركا كان إضفاء “شرعية” ما على الاشتراك العربي، وخصوصاً السعودي، في المخطّطات الأميركية، بل وتوريط بلدان الخليج العربية في أيّ صراع مسلّح كبير أو حرب أميركية إسرائيلية على إيران، وهو هدف سيورّط هذه البلدان بالمزيد من التسلّح، والمزيد من التبعية الأمنية لكل من أميركا وإسرائيل، إضافةً إلى تهديد هذه البلدان بالدمار والخراب.
وملخّص الأمر هنا هو أن الولايات المتحدة بالرغم من حاجتها الملحّة لاستمالة “العربية السعودية”، ونيل رضاها، ومشاركتها في هموم المملكة وهموم الإقليم، أصبحت تستخف بها، وتهدّدها تحت ذرائع وحُجج “واهية” بالمقارنة مع ما قامت أميركا نفسها من نفس طراز هذه الحُجج، بل وأكثر كثيراً، ربّما لا يُقاس.
عقلية الاستعلاء، التي تعكس روح الهيمنة الاستعمارية، والصلف الأميركي والتصرف باعتبار أميركا شرطي العالم وقاضيه وجلّاده هو ما أوصل القيادة السعودية الشابة إلى عملية تاريخية جديدة من “التمرُّد الناعم” على سياساتها المنحازة فقط لإسرائيل، ولمصالح “الغرب” دون أيّ اعتبار يُذكر لمصالح حلفائها.
وهذا الصلف شهدنا فصوله المتتالية في عهد ترامب، ونتائج فصوله الجديدة في إخضاع الأوروبيين أنفسهم لأهداف الولايات المتحدة الخاصة والضيّقة، وبصورة تبعث على أعلى درجات الامتعاض، إن لم نقل على الاشمئزاز نفسه.
ثالثاً: وجود قيادة شابّة وطموحة، وشُجاعة في التصدي لقضايا كانت تعتبر من مُسلّمات الحكم والسياسة في البلاد، بما فيها سطوة المؤسّسة الدينية الرسمية، وهيمتها المطلقة على الفضاء الاجتماعي والثقافي والتربوي.. وجود هكذا قيادة لا يكفي وحده لقيادة عملية تاريخية في بلدٍ كبير، وعظيم الشأن والتأثير لمكانته التاريخية الدينية، ولقدراته الاقتصادية، ودوره الإقليمي الهائل ــ بصرف النظر عن شكل ومحتوى هذا التأثير ــ من دون أن يترافق دور هذه القيادة ويتكيّف مع معطيات المعادلات الدولية للصراع، ومع موازينه الجديدة، ومع قوى المستقبل فيه وأشكال التحالفات والاصطفافات التي ستتشكّل، والحقائق التي ستترسّخ تباعاً. وهنا بالذات يُحسب للقيادة السعودية القدرة في قراءة حقائق هذا الصراع وهذه التوازنات، وهذه الاصطفافات.
كاتب هذه المقالة لم يتوقّع في حينه أن تكون القيادة السعودية على هذه الدرجة من التنبُّه والحذر والدراية والحِنكة السياسية. وقد أخطأتُ شخصياً حين اعتبرت أن الإدارة الأميركية ستنجح في توريط المملكة بـ “الناتو الجديد”، وهو ما يدلّ على أنّ المؤسّساتية في المملكة باتت قادرة على المعرفة والتقدير واختيار القرار المناسب النابع من مصالح البلد أوّلاً وقبل أيّ مصالح أُخرى.
رابعاً: في إطار القدرة على رصد الواقع وقراءة المتغيّرات الإقليمية أظنّ أنّ المملكة قد لاحظت بوعيٍ كبير الدور الصيني الجديد في عالم اليوم، واستبقت بلداناً كثيرة لبناء علاقات هامّة وإستراتيجية معها، تماماً كما كانت قد قرأت أنّ من مصلحتها الخاصّة الإبقاء على علاقاتها الصحّية مع دولة بحجم روسيا الاتحادية، ومن زاوية الأزمة الخاصّة بالطاقة على الصعيد الكوني، في ضوء النتائج التي ترتّبت على الحرب في أوكرانيا، والنتائج التي يمكن أن تترتّب على حروب تحاول الولايات المتحدة افتعالها في بحر الصين، أو حول مستقبل تايوان أو غيرها، وكان من نتائج هذه القراءة أن اختارت المملكة مصالح شعبها، ومصالح أمّتها، ومصالح المنطقة.
خامساً: من الواضح أنّ هذه النزعة السعودية نحو درجةٍ معيّنة من الاستقلال عن الاندراج التام في الإطار والإستراتيجيات الغربية قد تصاحب مع نزعات على الصعيد الإقليمي والدولي على حدّ سواء.
لقد قرأت “العربية السعودية” جيّداً الاستدارات التي قامت بها إيران للحفاظ على مصالحها، والمرونة التي أبدتها إيران مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية لتفويت الفرصة على مخطّطات “الغرب” للإيقاع بها، بل والاستفراد بها، ولاحظت المملكة الاستدارة التركية جيّداً، وكيف تراجعت تركيا لأسباب كثيرة من بعض السياسات التي أضرّت بها، وعادت للتأقلم مع المتغيّرات الدولية الجديدة، وتراجعت تحديداً عن الدعم غير المشروط لـ “الإسلام السياسي” في شقّه “الإخواني”، وعن سياسة المحاور ضد مصر، والبلدان العربية في الخليج، وأصبحت تميل لعلاقات متوازنة مع روسيا، وتعبّر عن استعدادات جديدة لحلّ الصراع في سورية على أُسس وقواعد لم تكن تقبل بها مُطلقاً، كما أظنّ أن موقف الهند قد أوحى للقيادة السعودية.
كما قرَأَت المملكة الأزمة الإسرائيلية الداخلية مبكراً، ما أتاح لها فرصة التأنّي بمسألة “التطبيع”، ووفّر لها هوامش واسعة من المناورة نحو شروط ومحدّدات هذا “التطبيع”، والذي يستحيل على إسرائيل القبول بها في ظلّ ما وصلت إليه أزمتها المستعصية.
وفي الواقع فإنّ المملكة بات لديها مخطّطات كبيرة واستراتيجية للتحديث، ولم يعد لديها ما يمنع تطعيم هذا التحديث بعناصر عقلانية من الحداثة نفسها، ولديها طموحات في التحوّل إلى مركزٍ صناعي، وتقني، وسياحي سيجعل من الاعتماد على النفط وعوائده مجرّد أحد مصادر الدخل، وليس المصدر الوحيد أو يكاد يكون الوحيد كما كان لسنواتٍ طويلة، وسيحول الاقتصاد السعودي إلى اقتصاد مُنتج بدلاً من الاقتصاد الريعي، وسيحوّل المجتمع السعودي الزاخر بالطاقات الشابّة والفنّية إلى مجتمعٍ نشط في عملية التحديث والبناء الجديد، وهذه كلّها ليست سوى معالم مرحلة جديدة ستحوّل الدور الإقليمي لـ “العربية السعودية” من دور مُلحق بـ “الغرب” إلى دور أقرب إلى الدور الإقليمي المتوازن والمتّزن، وهذا أكثر ما يخشاه “الغرب”، وما سيحاول منعه بكلّ الوسائل بما فيها الوسائل غير المشروعة تحديداً.