عبد المجيد سويلم: طلب العفو: فضيحة قانونية ستؤدّي إلى أزمة أكبر
عبد المجيد سويلم 4-12-2025: طلب العفو: فضيحة قانونية ستؤدّي إلى أزمة أكبر
الطلب الذي تقدّم به بنيامين نتنياهو المطلوب لـ»الجنائية الدولية» إلى رئيس دولة الاحتلال اسحق هرتسوغ هو في الحقيقة غريب وعجيب، وهو في الجوهر فضيحة.
فهو لا يطلب العفو بعد الحكم، بل هو يطلب البراءة قبل الحكم، وهو ليس على أيّ استعداد من أيّ نوع كان لكي يكون هذا العفو، أو بالأحرى البراءة مقابل أيّ شيء، وإنما مقابل [إعادة اللُّحمة إلى المجتمع الإسرائيلي الممزّق، وتمكين نتنياهو من إدارة «الدولة» في الظروف الأمنية التي يمرّ بها الإقليم].
وهنا يربط نتنياهو بصورة غرائبية وعجائبية ما بين «براءة» شخص، وما بين تماسك المجتمع، وتحقيق المصالح القومية في هذه الدولة، وهنا يتفوّق على مقولة: «أنا الدولة والدولة أنا». ومن هذه الزاوية بالذات فإن هرتسوغ في حال أن رفض طلب البراءة والعفو سيكون هو المسؤول عن «التهديد» الذي سيتعرّض له المجتمع الإسرائيلي، والأمن القومي الإسرائيلي كلّه! هل رأيتم أعجب من ذلك؟
أي أنّ نتنياهو قد حوّل محاكمته إلى «محاكمة» مضادّة ضد الرئاسة الإسرائيلية، ووضع المجتمع الإسرائيلي كله أمام مأزق قانوني سيؤدّي إلى ذروة جديدة من الأزمة الداخلية، التي بات واضحاً تماماً أنها تتحوّل يوماً بعد يوم إلى استعصاء بنيوي يشتمل على كل مناحي الحياة الاجتماعية في دولة الاحتلال.
وبمجرّد الإعلان عن طلب نتنياهو رسميّاً، وتقديمه عن طريق القنوات القانونية المعمول بها انفجرت موجة جديدة من حدّة الخلاف ومن الاستقطاب المتجدّد، وعاد «المجتمع» إلى درجة أعلى من الأزمة. فمقابل طلبه بالعفو والبراءة طالبت «المعارضة» على الفور بأن يتم الاعتراف بالذنب، وإعلان الندم، والاستعداد التلقائي لمغادرة الحياة السياسية جرياً على ما يُفترض أنّه مضمون قانوني، وأنّه سابقة قانونية لا تخضع للاجتهاد الخاص، ولا حتى من قبل هرتسوغ.
وطالبت «المعارضة» بالالتزام الصارم بهذا «النهج» الديمقراطي، وبخلاف ذلك رأت أن الدولة العبرية ستكون قد فقدت الركن الأهم في مسار «الديمقراطية» الإسرائيلية، ويكون القضاء الإسرائيلي قد أخلى الطريق أمام حكم سلطوي خاص ببعض الجماعات السياسية التي لا تقيم وزناً للمؤسّسات، وتستخدم ما يلبّي مصالحها من شكليّات هذه الديمقراطية، وتدير ظهرها لها، وتتجاوزها، وتتجاوز كل اعتباراتها وأبعادها ومتطلّباتها عندما تتعارض مع المصالح السياسية المباشرة، وأحياناً غير المباشرة لهذه الجماعات.
واضح أنّ هرتسوغ بات يجد نفسه في وضع لا يُحسد عليه. فلو استجاب لهذا الابتزاز الذي ينطوي عليه طلب نتنياهو فإن الأزمة الداخلية الإسرائيلية ستنتقل من مرحلة الاشتعال إلى الانفجار الكبير، وسينزل إلى الشارع الإسرائيلي مئات الآلاف، ولن تقف الأمور عند حدود التظاهرات فقط، لأن شلّ الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية سيتحوّل إلى واقع سياسي مباشر، وربّما تذهب الأمور إلى ما هو أبعد من ذلك، أيضاً.
وأمّا إذا اشترط هرتسوغ الإعلان عن الندم، والاعتراف بالذنب، والتنحّي عن الحياة السياسية فإن «اليمين» الحاكم سيذهب بعيداً في «سلطويّة» الحُكم، وربّما يورّط كيانه في مغامرات خطيرة على مستوى الحروب في الإقليم، وربّما يفكّر جدّياً في إلغاء الانتخابات، وإعلان حالة طوارئ خاصة بحجة الأوضاع الأمنية، وبحجّة «التهديدات» للأمن القومي.
بل وأبعد من ذلك، فإن «اليمين الكهاني» في هذه الحالة سينقل الصراع بأبشع أشكاله إلى الضفة الغربية وقطاع غزّة، لكي يُعيد خلط كلّ الأوراق، ولكي يعيد رسم الخارطة السياسية والحزبية في دولة الاحتلال من على قاعدة «درء» الأخطار القومية، والتي ستعني في الواقع الموت والتدمير والتهجير.
هرتسوغ لا يستطيع الذهاب إلى الخيار الأوّل، وهو لا يستطيع الذهاب بصورة مؤكّدة إلى الخيار الثاني، أيضاً، لأسباب قانونية وسياسية كثيرة ومتعدّدة.
والسبب الأهمّ هنا هو أن طلب العفو الذي تقدّم به نتنياهو لا يأتي على خلفية الاعتراف بالذنب، والندم، وبالتالي الاستعداد للامتثال إلى شرط التنحّي عن ممارسة الحياة السياسية، وإنّما يأتي على خلفية عدم الاعتراف بالذنوب كلّها، بل وعلى خلفية اتهام القضاء الإسرائيلي بالمشاركة المباشرة في «مؤامرة» عليه، ليس باعتباره «شخصاً متّهماً»، وإنما بسبب أنه لا يتمكن من خلال استمرار المحاكمات من «إدارة الدولة»، ومن «إعادة اللُّحمة إلى المجتمع»، وبالتالي فعدم البراءة يعني مؤامرة، وهذا يعني أنها هنا، أو ما يسمّيه العفو هو «ضرورة» سياسية للدولة والمجتمع، وأنّ من لا ولن يوافق على هذه البراءة، وهذا العفو هو في الواقع سيكون المسؤول عن استمرار الأزمة، وهو وحده من يتحمّل تبعاتها «الكارثية» على وجود، ومستقبل تماسك هذه الدولة، وتماسك هذا المجتمع.
أي أن نتنياهو من خلال وثيقة طلب العفو، أو بالأحرى البراءة قد نجح ــ أو هكذا يرى ويعتقد ــ في وضع الاتهامات التي يُحاكم عليها في قالب سياسي مصيري، حسّاس وخطير للغاية، وبحيث تتحوّل الحيثيّات القانونية لهذه الاتهامات إلى سفاسف لا قيمة حقيقية لها أمام «عظمة» القضايا السياسية والإستراتيجية التي يطالب نتنياهو بالتركيز عليها، والانشداد لها!
ويستظلّ نتنياهو قبل وإلى جانب وبعد كل ذلك بالدعم الذي تلقّاه من ترامب، والذي طالب بالبراءة والعفو، وإقفال كامل الملف، قبل خطابه في «الكنيست»، وبعد الخطاب، أيضاً، من خلال رسالة رسمية خطّية وجّهها لهرتسوغ، وأُعلن عنها رسمياً، أميركياً وإسرائيلياً.
وليس أمام هرتسوغ في الواقع سوى أن يجري جولة مكثّفة من المشاورات، وليس أمامه سوى أن يستأنس برأي وزارة العدل، وليس بمقدوره أن يبتّ على الفور بالقرار الذي سيتخذه قبل استنفاد كل المشاورات المطلوبة، وقبل أن يحصل على معطيات كافية حول مآلات القرار المطالب به. و»أزمة» هرتسوغ هي مأزق بحدّ ذاته، ناهيكم عن المأزق الخانق على مستوى كل الدولة، وكل المجتمع.
وبحكم الطابع البروتوكولي للرئاسة الإسرائيلية، وبحكم قناعاته السياسية، والتي هي أقلّ تطرّفاً بقليل من نتنياهو وحكومته، ومجموع «ائتلافه الفاشي»، وبحكم معرفته لأهمية رأي ترامب فإن رأي الشارع الإسرائيلي «المعارض» للأخير وجوقته كلّها سيكون هو العامل الحاسم في هذا القرار، بصرف النظر عن فترة تأجيل اتخاذ القرار، ومحاولة الابتعاد ما أمكن عن أيّ صفة للاستعجال أو التسرّع بشأن القرار وموعده وطبيعته. لماذا سيكون رأي الشارع «المعارض» لحكومة نتنياهو هو العامل الحاسم؟
برأيي أن السبب في ذلك يعود للاعتبارات التالية:
الأوّل، أنّ هناك قطاعات سياسية واجتماعية واسعة في المجتمع الإسرائيلي ترى في نتنياهو وحكومته و»ائتلافه الفاشي» سبباً مباشراً في الأزمة القائمة في الدولة والمجتمع، وأكثر من أي جهة أخرى، ويشمل ذلك قطاعات واسعة من الجيش وأذرع الأمن، ومئات الضبّاط والجنرالات المتقاعدين والعاملين، إضافة إلى فئات واسعة من النخب الأكاديمية وجماعات التأثير في المجتمع الإسرائيلي، وهو أمر لا يستطيع هرتسوغ أن يتغافل عنه بتاتاً.
والثاني، أن العفو أو البراءة سيتناقضان مع الكثير من مؤسّسات القضاء، وهو القطاع الذي طاله العبث أكثر من غيره جرّاء «الإصلاحات القضائية»، بما في ذلك القضاة وطريقة اختيارهم، والاعتبارات الخاصة للسلطة التنفيذية التي ستصبح هي صاحبة القرار الحقيقي في وظائفهم.
وأمّا الثالث، فإن الذهاب إلى قرارات تخرق الأعراف والتقاليد الديمقراطية إلى درجة تحوّل فيه الدولة والحكم إلى دولة «شمولية» في الواقع، وإلى حكم ديكتاتوري من حيث الجوهر من شأنه أن يعزّز عزلة دولة الاحتلال أكثر من عزلتها الخانقة السابقة على مثل هذه التوجّهات، لكي لا ننسى في النهاية أن الفئات «المعارضة» للحكومة و»الائتلاف الفاشي» ليس حليفاً طبيعياً لا لترامب، ولا لـ»اليمين» الأميركي، ولا لكلّ التوجّهات «اليمينية» المتطرّفة في أوروبا، ولهذا فإن «التوافق» المؤقّت بين ترامب و»المعارضة» الإسرائيلية حول بعض قضايا الحرب العدوانية وغيرها، لا يجعل من هذه «المعارضة» متوافقة مع «اليمين» في أميركا وأوروبا، وهذا ما يفهمه جيّداً هرتسوغ، وما يخشى من عزلة أكبر لكيانه بسببه، ونتيجة له.



