عبد الغني سلامة: نضال استعراضي
لا شك لدي أن لهذه الحرب العدوانية وجوهاً عدة، وجه تتمثل فيه صور البطولة والمجد، وصور أخرى تمثل جانب المأساة والكارثة.. فثمة مقاومون مضحون وشجعان، قدّموا أرواحهم فداء مبادئهم.. ومدنيون عزل يبيتون في خيمة بائسة جائعين ويرتجفون من البرد، لكنهم ممتلئون بمعاني الأنفة والعزة.. رغم صحة ما يقال عن “الصمود الإجباري”، وأنه “لا خيار أمامهم”، ومع ضرورة تمييزنا بين حق المقاومة ووجوبها، وممارستها بالشكل الصحيح، وبين ممارستها بنهج المغامرة غير المحسوبة، أو ممارستها على شكل إعلان الحرب.
هناك الكثير مما يمكن قوله عن تلك الصور المتناقضة، والتركيز على جانب، وتجاهل الجوانب الأخرى بتحيزات مسبقة ورؤى حزبية ضيقة.. ما أود الحديث عنه هنا جانب آخر، يمكن وصفه بالنضال الاستعراضي، أو النضال الموجه للجمهور.
جميعنا يدرك أهمية الصورة، والإعلام، والخطاب، والتصريح الصحافي، والتحدث إلى الجمهور، ورفع المعنويات.. إلخ، على أن يتسم ما سبق بالموضوعية والمصداقية، لا أن يكون مجرد بروباغاندا ودعايات سياسية وحزبية. ولتوضيح الفكرة لنطرح بعض الأمثلة:
بخصوص الحرب المحتدمة بين إيران وإسرائيل، والتي انحزنا فيها إلى جانب إيران بطبيعة الحال، تلك الحرب أخذت الشكل الإعلامي أكثر من مفاعيلها على الأرض، حيث قصف كل طرف الآخر ضمن حسابات دقيقة بحيث لا يستفزه إلى درجة تدفعه لاستخدام أقصى قوته، وبالتالي الوصول إلى حرب كبرى.. وهذا حسن، ومفهوم ومبرر ضمن الحسابات السياسية المعقدة، ولكن لنراجع الحرب الإعلامية بين الطرفين.. إيران تهدد بحرق الكيان، وإزالته عن الوجود، فيما تهدد إسرائيل بتدمير منشآت إيران النووية والنفطية وإعادة البلد إلى العصر الحجري.
في حقيقة الأمر كان كل طرف يخاطب جمهوره تحديدا، إيران تريد من خلال تصريحاتها النارية إرضاء وإسكات شعبها وجمهورها ومؤيديها، وإيصال رسائل معنوية معينة.. وإسرائيل تريد إسكات اليمين والمستوطنين وإرواء جمهورها المتطرف والمتعطش للدماء.
الأسلوب نفسه كان يمارسه حزب الله؛ فتصريحاته الإعلامية كانت توحي بأن لديه قوة رادعة قادرة على سحق إسرائيل وضرب مراكزها الحيوية.. فهل كانت تلك التصريحات تعكس الحقيقة، أم أنها موجهة؟ الإجابة ربما أن الحزب انخرط في الحرب لإرضاء جمهوره، وخلافا لقناعات قياداته التي رأت أن الأوان غير مناسب، وأن الأمر فوق طاقته؛ لذا ظل على مدى سنة كاملة يضرب ويقصف بضربات محسوبة، وضمن قواعد اشتباك متفق عليها ضمنيا.. لنناقش لاحقا موضوع النتائج وما حصل مع الحزب وتلقيه ضربات قاتلة واغتيال قادته.
كذلك فعلت حماس والجهاد؛ خطاب إعلامي مليء بالوعيد والتهديد، ويظهر الانتصارات وتدمير الدبابات (بغض النظر عن دقة الصور والفيديوهات التي تنشرها عبر “الإعلام الحربي”)، المهم أن من يتابع هذا الخطاب سيعتقد أن ما يجري عبارة عن حرب بين جيشين شبه متكافئين، وأن ضربات حماس على وشك إلحاق هزيمة عسكرية كبرى بإسرائيل.. في حين أن ما يجري على أرض الواقع مختلف كليا، والنتائج المتحققة كارثية بمعنى الكلمة.. لكنه خطاب معد بطريقة تستهدف جمهور حماس في العالم الإسلامي، وبرسائل واضحة مفادها: أننا موجودون، وأي حل سياسي أو ترتيبات للمنطقة لا يمكن أن تمر إلا بموافقتنا ومشاركتنا، حتى لو أدى ذلك إلى مقتل آلاف الفلسطينيين، وأمامنا نموذج الجزائر، وما زلنا بعيدين عن الوصول إلى رقم المليون شهيد!!
والأمر ليس فقط لإرضاء الجمهور، أو امتصاص غضبه؛ فما يحصل أيضا أن الحزب أو الفصيل يصبح رهين شعاراته وأسيراً لها، ولأنها شعارات “إطلاقية”، وعمومية، عوضا عن أن يقوم بتكييفها أو مراجعتها.. يصر إعلاميا على التمسك بها وترديدها، مهما توسعت الفجوة بين الشعار وإمكانية تحقيقه، وحتى لو كان سيؤدي إلى التهلكة.
يأتي خطاب “الجزيرة”، وسائر المحطات الفصائلية في السياق نفسه؛ خطاب موجه للجمهور بطريقة دعائية مكشوفة.. وبالطبع يسري التعميم على سائر المحطات الفضائية والمنصات الإعلامية الأخرى ودون استثناء، كل محطة تستهدف جمهورها، وتسعى لإرضائهم وتوجيههم بحسب توجهاتها وأجنداتها.. إما تضخيم “المقاومة” والمبالغة في وصف قوتها وأفعالها.. أو تثبيط المعنويات وبث ثقافة اليأس والاستسلام. وهذا ينسحب حتى على المراسل في الميدان والمذيع في الاستوديو، اللذين سيتبادلان الأدوار لإرضاء قناتهما الفضائية، حتى لو كان ما يقوله الإعلامي مخالفا لقناعاته.
وأيضا الكتّاب والمثقفون والمؤثرون في وسائل التواصل.. أغلبهم تنطبق عليه القاعدة نفسها: استهداف جمهور معين، وتعزيز تحيزاتهم المسبقة، وعلى طريقة “ما يطلبه المستمعون”.. حتى أولئك الذين صمتوا ولم نسمع لهم صوتا، صمتوا لأنهم خائفون من جمهورهم، ولا يريدون إغضابهم، أو خسارتهم.. باختصار ما هو سائد خطاب شعبوي تسطيحي، وخطاب دعائي دوغمائي.
وأسوأ ما في الموضوع ذلك السوق الذي أوجدته الفضائيات، والذي استدعى زبائنه من بعض الكتّاب والمحللين والخبراء، وكأنه موسم للتكسب؛ حيث استخدمت كل محطة ثلة من الأشخاص الذين يقولون ما تريده المحطة، بلا موضوعية، وبلا أمانة، وبتغييب سافر للرأي الآخر..
المشكلة أن الجمهور العربي والإسلامي يعيش منذ عقود طويلة في سلسلة من الأزمات والنكبات والهزائم، في ظل أنظمة قمعية، وضمن ظروف بائسة ومهينة.. وقد وجد أخيراً مصدرا يعوضه كل بؤسه ومهانته وينسيه هزائمه، وفوق ذلك يمنحه شعورا بالعزة والكرامة ويمنحه الأمل.. وذلك المصدر هو غزة.. وبالتالي يجب أن تستمر حرب غزة، ونظل نسمع أخبار التفجيرات وقصص البطولة، وليس مهماً إن كانت فعلا قصصا حقيقية، وليس مهماً ما يحصل لهؤلاء الغزيين، حتى لو ماتوا جميعاً.. المشروع يستحق التضحية، ونحن بحاجة ماسة لمن يطربنا بأخبار “التفجيرات” و”الانتصارات”..
وبذلك ضاعت الحقيقة، أو ضُيعت، وتفتتت إلى نتف هنا وهناك، وتاهت الجماهير وتعمقت حيرتها، وتعمق انقسامها، حتى وصل الضمائر والمشاعر والوجدان، وأحيانا فقدان البوصلة الإنسانية. والخاسر الأول هم الفلسطينيون، وبالذات أهلنا في غزة، الذين يدفعون الأثمان الباهظة من لحمهم ودمهم وخوفهم وارتعادهم وجوعهم، ومن واقعهم البائس ومستقبلهم الذي صار في مهب الريح.