عبد الغني سلامة: معضلتنا المزمنة
بحسب ما نعتقد وبناء على ما هو رائج في الخطاب الأيديولوجي فإن إسرائيل المسؤولة الأولى عن أزماتنا ومشاكلنا وهزائمنا.. باعتبارها مشروعا استعماريا مهمته الوظيفية منع قيام الوحدة العربية، وتعطيل وتخريب كافة المسارات التحررية والتقدمية والديمقراطية، وإغراقنا في الأزمات الاقتصادية، والصراعات الحدودية، والفتن الداخلية، وإبقاؤنا في حالة ضعف وتفكك.. إلخ.
ليس عندي شك أن ما تقدم صحيح (نسبيا)، باعتبار ذلك كله من وظائف ومهمات المشروع الصهيوني، لكن ما هو أصح أن أزماتنا الحضارية موجودة قبل قيام المشروع الصهيوني بقرون، وما فعلته إسرائيل (ومن خلفها الغرب الإمبريالي) أنها عطلت وأعاقت مشروع النهضة العربية الذي بدأت بواكيره مع مطلع القرن العشرين، وعمقت ما هو موجود من أزمات، وأضافت إليها.. لكن أساس الخلل ذاتي وبنيوي ومتأصل.
تحدثنا في مقالات سابقة عن جذور الأزمة الحضارية والتاريخية، وعن مقاربات عديدة بين الدول العربية ونظيراتها من الدول (شرقا وغربا) التي نهضت وتقدمت وبنت الإنسان والمؤسسة، لذا يمكن التعريج بعجالة على أهم تمظهرات أزمة النظم والمجتمعات العربية.
أصل الأزمة في المجتمعات العربية أنَّ العقل معطل والتفكير مؤجل لأمد مفتوح، والاحتكام فقط للقوالب الجاهزة التي أُنتجت قبل قرون، وأي محاولة تجديد أو اختراق تتم محاربتها بذريعة أنها بدعة مضلة، وتعدٍ على المقدس.. فضلا عن العقل الخرافي المليء بالأساطير والترهات والتفكير الغيبي وذهنية المؤامرة.. إلخ.
في المجتمعات العربية، الحاكم مطلق الصلاحيات، تحيطه طبقة ينخرها الفساد من المستفيدين والانتهازيين، يقررون بلا تخطيط، أو يخططون على الورق فقط، وبلا رؤية، لا يعرفون الانتخابات وتداول السلطة سلميا، فالحكم بالوراثة كابرا عن كابر، وإذا أجريت انتخابات فسيتم تزويرها من المجتمع قبل المخابرات، فغالبا سينتخب الناس من يعرفون يقينا أنهم فاسدون وقتلة وفاشلون، لكنهم ينتخبونهم فقط لمجرد أنهم من نفس الطائفة، أو نفس العشيرة، والحزب.
المجتمعات العربية لم ترتقِ بعد إلى مستوى المجتمعات المدنية، وما زالت محكومة بنظم وعقليات وبنى طائفية وقبلية وعشائرية، حتى النظم والحكومات والمؤسسات والجيوش وأجهزة الأمن تخضع للعقلية الطائفية والعشائرية، وباسم الدين والطائفة تحولت إلى نظم أوليغارشية (فاسدة ومستبدة).
المجتمعات العربية عبارة عن كيانات سياسية هشة تهزها الكلمة الحرة، والتي لا تستطيع مجابهتها إلا بالقمع، إما بالاعتقال والتنكيل، أو بمجموعة من الملثمين والشبيحة، ذلك لأنها محكومة بمنظومة أمنية تعتقد بأن كتم صوت المعارضين وسحقهم هو الحل الوحيد.. وأحيانا كثيرة يتولى المجتمع بنفسه مهمة القمع بالترويع والتكفير والإرهاب الفكري.
في تلك النظم الاستبدادية، من الشائع أن يقوم ملثمون باختطاف معارض والتنكيل به حتى أمام الناس. ومن الشائع أيضا مطاردة شخص بسبب منشور على فيسبوك إذا انتقد الحاكم، أو وزيرا، أو حتى رئيس البلدية (لأننا نخشى النقد ونحاربه تحت مسميات عديدة). ومن الشائع أيضا تنفيذ مجموعة عسكرية انقلابا على النظام بقوة السلاح. أو أن تأخذ مجموعة (أو فرد) القانون باليد خاصة إذا كان ذلك من مصلحتها الشخصية. وأن تصبح فجأة أي مجموعة مسلحة هي الوصية على أخلاق المجتمع.. أو عندما تحدث فوضى وأزمات ويتهدد السلم الأهلي أن تشيع الاعتداءات العائلية والبلطجة، وتصبح العشيرة بديلا عن الدولة والنظام.
في المجتمعات العربية، لا وجود لصحافة حرة، ولا لقضاء مستقل، ولا لرقابة على أجهزة الدولة وأدائها وموازناتها وقوانينها، ليس فيها برلمانات حقيقية، وإذا وُجدت قوة معارضة فغالباً ما تكون أفسد من السلطة، أو تكون امتدادا لفشلها وعجزها، لكنها تتفوق عليها بالمزاودة والخطابات.
في المجتمعات العربية، التعليم متخلف ونمطي، ولا توجد جامعات يمكن أن تنافس الجامعات الغربية، والإنفاق على البحث العلمي في آخر سلم الأولويات.
في المجتمعات العربية، لا احترام للإنسان؛ لا لحياته، ولا لكرامته، والثقافة السائدة تجيز وتبرر التضحية بالسكان وبأعداد هائلة في سبيل أهداف سياسية أو أيديولوجية أو غيبية؛ لذا صار التعدي على حقوق المواطن القانونية والمدنية مسألة مقبولة، أو تجري مجابهتها بطرق احتيالية وبالبحث عن خلاص فردي.
في المجتمعات العربية، لا احترام لسيادة القانون؛ والنظام الحاكم مستعد لتغيير الدستور في جلسة واحدة، أو تعطيله بالقوة أو بالاحتيال على الشعب، وأجهزة الدولة تخرق القانون كلما أرادت ذلك، ولا أحد يستطيع محاسبتها.. وكل مواطن يسعى لخرق النظام كلما اقتضت مصلحته ذلك، ويعتبر خرقه للقانون “شطارة”.
السمة الواضحة في المجتمعات العربية إلى جانب التخلف والفوضى والعنف، عدم احترام الوقت والمواعيد، وعدم إتقان العمل، ومحاربة التجديد، ومناهضة أي محاولة لتغيير ما هو سائد خاصة فيما يتعلق بالقيم والتقاليد والموروث الثقافي السلبي فيما يتعلق بالنظرة الدونية للمرأة، والنظرة السلبية للأطفال، والمفاهيم المغلوطة تجاه الأسرة والانتماء والعمل وحتى مفهوم الفساد نفسه.
كل هذه السلبيات متغلغلة في بنيان المجتمع وثقافته وتنخر فيه كالسرطان وتتسبب في إضعافه وهزيمته، والمجتمع عملياً هو حاضنتها الرسمية ووكيلها الحصري؛ لذا فقد تجسدت في مؤسسات الدولة.. لذا لم يكن غريبا أن نتلقى كل تلك الهزائم العسكرية.
لم يعرف التاريخ أي مجتمع متخلف استطاع إحداث تطوير أو نهضة أو بناء دولة محترمة.. لذا، قبل أن نفكر بهزيمة إسرائيل يجب أولاً تشخيص أمراضنا المزمنة بدقة، والاعتراف بكل سلبياتنا ونواقصنا بجرأة وشجاعة، فما بالك بمواجهة مشروع استعماري لديه كل أسباب التفوق (العلمي والحضاري) ومتخم بكل أنواع القوة المادية والمعنوية والسياسية والاقتصادية، وتضع فيه كبريات الدول العظمى كل طاقاتها ومقدراتها وتسخرها له.
تلك السلبيات أخطر علينا من كل الجيوش، لأن الطائرات والدبابات تهاجمنا من الخارج، والقلاع عادة تسقط من الداخل، وقلاعنا هزيلة ومفككة منذ زمن بعيد، وما زلنا نخشى مواجهة هذه الحقيقة، ونتهرب منها بخطاب إنشائي فصيح، وتهديدات عنترية زائفة.