عبد الغني سلامة: مدخلات ومخرجات

عبد الغني سلامة 1-10-2025: مدخلات ومخرجات
انتهينا في مقالة سابقة إلى أن المفاوضات وشروطها تأتي استجابة لنتائج الحرب الفعلية وما تحقق على الأرض، يتفاجأ بها فقط من لم يدرك حقيقة ما دار في الحرب واكتفى بتغطية «الجزيرة».. وتناسى أنَّ السياسة تحكمها قوانين تشبه تماماً قوانين الطبيعة والفيزياء والمعادلات الكيميائية.. وهذه القوانين لا تعبأ بالصور الافتراضية التي نخلقها لأنفسنا، ولا يهمها مدى رضانا أو رفضنا لها، أو جهلنا بها.. يعني باختصار خطة ترامب ما هي إلا نتيجة متوقعة لمآلات الحرب منذ يومها الأول.
للتوضيح لنأخذ مثالاً علمياً، ثم نستعرض أمثلة من التاريخ الحديث لتدعيم الفرضية.
لو أن شخصاً ما قام بتصنيع سيارة (سنسمي مرحلة تجميع وتركيب القطع والأجزاء «المدخلات»، ومرحلة التشغيل والقيادة «المخرجات»).. لو أن هذا الشخص ارتكب أي خطأ في المدخلات؛ كأن يهمل قوة المكابح مثلاً، أو كفاءة الموتور، أو ينسى برغياً أو صماماً أو يركب قطعة في مكانها الخطأ.. بكل تأكيد بمجرد تشغيلها ستظهر تلك الأخطاء، ربما فوراً أو بعد أيام.. قد يهوى في واد سحيق، أو يصطدم بجدار، أو تتركه وحيداً في منطقة معزولة.. ستحصل الكارثة حتماً، بصرف النظر عن حجم المديح والثناء الذي تلقاه من أصدقائه أثناء اشتغاله على تصنيعها.. وبصرف النظر عن مدى قناعته ورضاه بما صنعت يداه.
سنكتفي بثلاثة أمثلة من تاريخنا المعاصر، وهي كافية للتوضيح لمن أراد أن يفهم:
قبيل العام 1948 كانت المدخلات: جيوش غير كفؤة، قيادات مرتهنة، أسلحة متخلفة، تحالفات سياسية مشبوهة، تقدير الموقف كان خاطئاً من الأساس، لا توجد إستراتيجية مشتركة، دعم على شكل فزعات عشائرية. في الإعلام: هؤلاء مجرد عصابات، شذاذ آفاق.. المخرجات: النكبة والتشريد.
قبيل العام 1967 كانت المدخلات: الجيوش العربية غير مستعدة (اكتفى عبد الناصر بعبارة عبد الحكيم عامر «كل شي تمام»)، الأسلحة متخلفة، الخطة غير جاهزة وضبابية، لا توجد إستراتيجية، ولا تنسيق، تقدير الموقف خاطئ، القرارات المصيرية بيد شخص واحد، لا يوجد نقد ولا اعتراض ولا مساءلة، الجماهير مغيبة ومقموعة، الإعلام مضلل وكاذب، ثقافة التسحيج والقطيع.. المخرجات: النكسة والهزيمة.
أثناء أزمة الخليج الأولى 1990 – 1991 كانت المدخلات: اختلال فادح في موازين القوى، تخلف تكنولوجي ومعرفي، فرد مستبد وحده من يخطط ويقرر، جماهير مغيبة ومقموعة، إعلام حزبي أيديولوجي، غياب النقد والمراجعة، تغييب الكفاءات وانعدام الحوار، الترويج لفكرة أن الجيش العراقي رابع جيش في العالم، المدفع العملاق والكيماوي المزدوج والقائد الملهم، الموت لأميركا، تحالف صليبي، شعارات، تظاهرات، أدعية.. المخرجات: هزيمة الجيش وتفككه، وتدمير العراق، وتمزق الموقف العربي، ودخول أميركا إلى المنطقة، وبداية مسلسل الهزائم والتراجعات.
لنأتي إلى العام 2023 والحرب العدوانية على غزة:
المدخلات: رهان على محور المقاومة، رهان على قوة «حزب الله» وتدخله، رهان على زحف الشعوب العربية والإسلامية واختراقها الحدود، رهان على صواريخ «القسام» والأنفاق وتشكيلات «حماس» العسكرية التي صورتها «الجزيرة» نسخة عن كوريا الشمالية.. رهان على الموقف الدولي، وتغير الموقف الأميركي، رهان على ضعف إسرائيل (أوهن من بيت العنكبوت) وأنها لا تستطيع خوض حرب طويلة، ولا تستطيع الدخول برياً، وسينهار اقتصادها، وستنهار حكومة نتنياهو. إعلام يعتمد على الدويري وجوقة «الجزيرة» وغابات الزيتون..
من الأسابيع الأولى للعدوان تبين أن كل تلك الرهانات خاطئة وفاشلة ولم يتحقق منها شيء، ببساطة لأنها كانت مجرد أوهام وتمنيات وجزء من حملة تضليل ممنهجة.
طوال السنتين وإسرائيل مستمرة في القتل والتشريد والهدم واحتلال المدن، وأعداد الضحايا في ازدياد مطرد ومعالم سحق غزة واضحة للعيان.. دون اتخاذ أي خطوة لوضع حد للهزيمة، أو لوقف الكارثة وتدارك الأمر.
كل تلك الأخطاء بُنيت أساساً على أخطاء سابقة (مدخلات) تشبه تماماً مدخلات النكبة والنكسة وسائر الهزائم العربية: فساد، نظم شمولية، القرار بيد شخص واحد، وحده من يخطط ومن يقرر ومن ينفذ.. لا توجد ثقافة النقد والمراجعة والاعتراض والمساءلة والمحاسبة، بل ثقافة التسحيج والتقديس والمباركة وغض الطرف عن كل الأخطاء والممارسات.. لا توجد قيادة جماعية ولا تخطيط جماعي ولا إستراتيجية مشتركة، كل فصيل يريد أن يتفرد بالقضية الفلسطينية ويعتبر تاريخ انطلاقته هو تاريخ بدء المقاومة، وقد توجنا ذلك بالانقسام وسلخ غزة عن الضفة، والارتهان للعبة المحاور الإقليمية، والتجند للأجندات الإيرانية أو الأميركية.
لا توجد مراكز دراسات وتفكير إستراتيجي وتقدير موقف.. ما كان موجوداً هو ثقافة غيبية، ونبوءات موعد زوال إسرائيل. ثقافة لا تقدر قيمة الحياة والإنسان ومستعدة للتضحية بملايين البشر مقابل الأيديولوجيا.. مع أمثلة الجزائر وفيتنام الحاضرة في كل وقت، والمسقطة حتى دون دراسة وفهم.. ثقافة حزبية ضيقة تضع الحزب قبل الشعب وقبل القضية، وتخوض مراهقات سياسية بحسابات مرتجلة.. ينجم عنها شيوع نظريات المؤامرة وأن الغرب كله عدو، والأنظمة عميلة، والجميع خذل المقاومة.
قرارات مصيرية تُتخذ دون تخطيط إستراتيجي، ودون بناء تقدير موقف شامل لقوة العدو وإمكانياته، مع جهل لدوره الوظيفي ولمكانته في المعادلة السياسية الكونية، وفي النظام الدولي، وحجم الدعم الجاهز دوماً من حلف الناتو وأميركا ومنظومة الدول الغربية.. تقدير موقف مرتجل لم يقدر مدى ضراوة الرد الإسرائيلي، ولا أهمية الفرصة السياسية التي حصلت عليها إسرائيل للتوّ.
كل تلك المدخلات الخاطئة لا بد أن تنتهي بهذه المخرجات الكارثية: تدمير قطاع غزة واحتلاله، وقتل وجرح وتشويه وتشريد سكانه وتهيئة ظروف التهجير..
قبل أن تُفجع وتتفاجأ وتنصدم ويصيبك الإحباط وتوزع اتهاماتك شرقاً وغرباً وتحمّل جميع الأطراف المسؤولية وتبرئ نفسك.. تذكر أن العالم والكون والسياسة والحروب والدول والنظم تقوم على أسس موضوعية: مدخلات ومخرجات.. لا مكان للمعجزات، ولا للأوهام والرغبات.