عبد الغني سلامة: كيف نناضل من أجل الشعب؟
قبل الحرب العدوانية على قطاع غزة قال الشهيد الراحل يحيى السنوار في لقاء جماهيري: «نحن في حماس ومعنا الشعب الفلسطيني جاهزون لأن نفنى جميعاً ولا أن نقبل الصفقة، وجاهزون لأن نُقتل عن بكرة أبينا، حتى آخر طفل فينا، وأن نُحرق نساء وأطفالاً كما حُرق أصحاب الأخدود ولا أن نتنازل عن ثابت واحد من ثوابتنا».
وفي بداية العدوان قال الشهيد الراحل إسماعيل هنية: «في كل مرة أقول وأكرر إن دماء الأطفال والنساء والشيوخ لا أقول تستصرخكم؛ بل إننا نحتاجها لتوقظ فينا روح الثورة والعناد».
أما عضو المكتب السياسي موسى أبو مرزوق فقال: «حماس بنَت الأنفاق لحماية نفسها، وحماية المقاتلين، أما حماية المدنيين فهي مسؤولية الأمم المتحدة، ومسؤولية الاحتلال».
في فيديو مسجل قال القيادي في حماس غازي حمد: «لدينا أقوى ورقة ضغط على إسرائيل وهم الشعب، وحتى لو قتلت إسرائيل 20 ألفاً، أو 100 ألف لن ننهزم»..
وبمناسبة مرور سنة على بدء العدوان قال خالد مشعل: «خسائرنا تكتيكية وخسائر العدو إستراتيجية»، وفي تصريح آخر قال: «كل أعداد الشهداء ستتحول إلى ذكرى مجيدة، ثم تُنسى».. وفي تصريحات سابقة قال: «إن كل هذه الخسائر مجرد أذى عابر. وأطمئنكم بأن المقاومة بخير».
في لقاء متلفز للقيادي في حماس أسامة حمدان قال فيه: «ما لازم حدا يتخيل إنه التضحيات إنه استشهد الشعب، أو استشهد النساء والأطفال، التضحيات يجب أولاً أن تنظر إليها في صفوف المجاهدين وفي صفوف القيادة، هذه معركة، فقدنا رئيس الحركة، ومن قبله نائبه، وثلة من قيادات الحركة».
كل تلك التصريحات وغيرها ليست زلات لسان، بل هي خطاب رسمي موثق، وتعبير عن فكر وموقف الحركة تجاه الشعب، وتبيّن كيف ينظرون له، وبأي مقياس يقيمون تضحياته..
في هذا الخطاب تهرب من المسؤوليات الاجتماعية والوطنية تجاه المدنيين، حيث لا ذِكر لمعاناتهم، ولا يتم تقديم العزاء لعائلات الضحايا، ولا مواساة للناس، ولا التفاتة ولو بسيطة لأحزانهم، ولمدى الألم والقهر الذي يكابدونه، مع تجاهل واضح لقيمة الخسائر البشرية الباهظة وللأعداد الهائلة من الشهداء، ولحجم الدمار والتخريب.. كأنَّ كل ذلك غير مهم، أو كأنَّ المقاومة متحررة من أي أثمان، ومن أي التزام إزاء شعبها.. في هذا الخطاب لا قيمة لأرواح الناس ولا أهمية لعدد الشهداء.. لا مشكلة لو استشهد الملايين!
وفي الحقيقة يصعب فهم كيف أننا نحتاج دماء الأطفال والنساء لتوقظنا! ما قيمة الوطن وأهميته إذا لم يعد فيه شعب يسكنه ويعمّره؟
هذا يدل على أنَّ حماس، وللأسف، تنظر للجماهير كورقة ضغط ومساومة.. ولا تعطي أي اعتبار لحياة الناس.
كيف تتقبل مقتل خمسين ألف فلسطيني (لحد الآن) ومستعدة للتضحية بأضعاف هذا الرقم؟ وقد تبين أن إسرائيل قادرة بل وراغبة بشدة للوصول إلى هذه الأرقام المرعبة، والعالم بأسره لن يمنعها، ولن يفعل لها شيئاً.. وهي تدرك هذه الحقيقة تماماً!
كيف تكون خسارة مائة وخمسين ألفاً بين شهيد وجريح ومفقود مجرد «خسائر تكتيكية»؟ كيف يكون دمار غزة وطمس ذاكرتها وتخريب مستقبلها مجرد «أذى عابر»؟! كيف نفهم طمأنة العالم بأن «المقاومة بخير ولم يمسسها سوء»، بينما الشعب مدمر ومذبوح؟ هل يعني هذا أن المقاومة شيء مختلف عن الشعب؟ هل وظيفة الشعب بأطفاله ونسائه وشيوخه ومرضاه ومعاقيه أن يحمي المقاومة؟ أم العكس هو الصحيح؟
كانت حماس قد أصدرت وثيقة بعد مائة يوم على بدء العدوان، عنوانها: «هذه روايتنا»، جاء فيها: «إن الواجب الإنساني والأخلاقي والقانوني يفرض على دول العالم دعم مقاومة الشعب الفلسطيني وحمايتها وليس التواطؤ لسحقها والقضاء عليها». حتى في طلب الحماية الدولية اختصوا أنفسهم، ولم يطالبوا بحماية المدنيين! لاحظوا الطلب: حماية المقاومة! وليس حماية الشعب!
وكيف يفاخر أبو مرزوق بأن «حماس حفرت الأنفاق لحماية نفسها وحماية المقاتلين»! وماذا عن حماية الشعب؟ هل فعلاً واجب وكالة الغوث حماية الشعب؟ وهل بمقدورها ذلك؟
كيف نفهم تصريح حمدان بأن «التضحيات ليست استشهاد الشعب، أو استشهاد النساء والأطفال، بل التضحيات هي في صفوف المجاهدين وفي صفوف القيادة»؟ هذا يعني أنه لا يرى تضحيات الشعب، وإن رأها فهي ليست مهمة مقارنة باستشهاد القادة! وهل فعلاً «كل أعداد الشهداء ستتحول إلى ذكرى مجيدة، ثم تُنسى».. كما قال مشعل؟ هل هؤلاء مجرد أرقام؟
كان القيادي محمود الزهار، قد قال في فيديو نُشر في الإعلام في لقاء مع كوادر الحركة في حزيران 2019: «فلسطين بالنسبة لنا مجرد مسواك، وهي لا تظهر على الخارطة، وإن مشروعنا أكبر منها بكثير، والعلم الفلسطيني مجرد خرقة بالية».
وأنه عندما يسمع دولة فلسطينية في حدود 1967 يتقيأ. وما يميز الزهار أنه صريح وجريء ويقول ما يعتقد به دون مواربة.
جميع الفلسطينيين من أصغرهم حتى أكبرهم، ومن اليساري الثورجي حتى اليميني المنبطح، يدركون وبيقين تام أن فلسطين لن تتحرر إلا بالتضحيات، وأن ثمن الحرية غالٍ، وأن الشعوب تضحي بالغالي والنفيس من أجل تحررها.. هذه حقيقة لا جدال فيها، لكن لا يستغفلن أحد عقولنا ويستخدم هذه المقولات لتبرير المذبحة وإلقاء شعب كامل إلى التهلكة مقابل لا شيء..
إلا إذا اعتبرنا أن مقتل نحو 400 جندي إسرائيلي (منذ الاجتياح البري حتى الآن)، وتدمير وإعطاب بضع عشرات من الدبابات والجرافات، ومبيت الإسرائيليين في الملاجئ، وخسائر الاقتصاد الإسرائيلي.. تعادل كل هذه التضحيات الثمينة والباهظة والتي لا تعوض. هذا كله دون الحديث عن خسائر لبنان الفادحة..
ولا شك في أن «حماس» قدمت كوكبة من قياداتها وكوادرها شهداء على درب الكفاح (كذلك فعلت سائر الفصائل)، وهؤلاء سيخلدهم الشعب في ذاكرته، لكن هذا كان خياراً شخصياً حراً لكل من اختار هذا الدرب وهو يعلم نهايته.. وهذا موضوع لا علاقة له بموضوع المقال: كيف نناضل من أجل الشعب لا بدماء أطفاله ونسائه، وكيف نختار الأسلوب الأمثل للمقاومة بحيث لا نجلب الهزيمة، ونجنب المدنيين ويلات الحرب، ونحميهم، ونحول دون تقديم خسائر بشرية كان يمكن تجنبها.