عبد الغني سلامة: عن تغيير الخارطة الجيوسياسية
قبل الحرب بشهر ألقى نتنياهو خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وحينها أظهر خارطة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط زاعماً أن الألوان التي عيّنها في الخارطة ستكون حدود وشكل الشرق الأوسط الجديد، وأنه سيغير المنطقة، والعالم.
بالطبع مدفوعاً بتوهم مرضي بأنه أذكى وأقوى من كل مَن سبقوه من جنرالات وقادة ورؤساء دول عظمى، زعموا جميعهم (أو أسند إليهم) أنهم سيغيرون المنطقة وفق أطماعهم ورؤيتهم الخاصة.
لنتابع بعضاً من تلك المشاريع الكبرى التي استهدفت تغيير الخارطة الجيوسياسية، على الأقل منذ خمسينيات القرن الماضي.. ونرى مصائر تلك المشاريع، والأثر الذي تركته.
في الخمسينيات حاولت إسرائيل وبدعم أميركي (ويُقال بتفاهم مع مصر، أو رغماً عنها) تهجير اللاجئين من غزة إلى سيناء وتوطينهم هناك، الأمر الذي أطلق موجة تظاهرات شعبية حاشدة تقدمها معين بسيسو وقادة آخرون أفشلت المشروع.
وكررت إسرائيل محاولتها تهجير نحو ثلاثمائة ألف لاجئ من غزة إلى سيناء وذلك في العام 1970، إلا أن موجة جديدة من الكفاح (المدني والمسلح) شهدها قطاع غزة برز فيها الفدائي زياد الحسيني قائد قوات التحرير الشعبية، والفدائي محمد الأسود «جيفارا غزة» من الجبهة الشعبية، ومجموعات تابعة لحركة فتح، وقد جوبهت بقمع عنيف، لكنها أدت إلى إفشال مخطط التهجير.
وبعد هزيمة حزيران 1967 أكملت إسرائيل احتلالها لفلسطين ومعها ثلاثة أضعاف مساحتها، وحينها ساد اعتقاد بأن المشروع الصهيوني بلغ غايته، وسحق أعداءه، وألحق بهم هزيمة نكراء، بحيث لن يجرؤ أحد بعد ذلك على مقارعة إسرائيل.. لكن نتائج النكسة لم تكن كلها سلبية، فقد شكلت حافزا لنهوض الوطنية الفلسطينية، وانطلاقة فتح الثانية، وتصعيد الكفاح المسلح، كما أن مصر وسورية خاضتا حرب تشرين بعدها بست سنوات لتغسل بعضا من عار الهزيمة.
وبعد حرب تشرين 1973 طُرح بقوة مؤتمر جنيف، والذي قيل عنه آنذاك أنه سيغير الخارطة، وأنه مؤامرة لتصفية القضية، وو..
ثم جاءت الحرب الأهلية اللبنانية، وكان الهاجس الأكبر تقسيم لبنان، أو تسليمه لإسرائيل (اتفاق 17 أيار).. ومع أن الحرب انتهت بنتائج كارثية إلا أن المخططات الكبرى التي استهدفت لبنان فشلت ولو جزئياً.
وعندما غزت القوات الأميركية المنطقة (التحالف الثلاثيني) بحجة تحرير الكويت ونشبت حرب الخليج الأولى، كانت كل التخوفات (نتيجة أقوال المحللين) بأن أميركا ستعيد بناء شرق أوسط جديد، وأن مؤتمر مدريد سيصفي القضية.
وبعد غزوة مانهاتن (11 أيلول) وإعلان الولايات المتحدة حربها على الإرهاب، والتي دشنتها باحتلال أفغانستان (2001)، ثم تبعتها بغزوها للعراق (2003)، قيل أيضا أن أميركا ستعيد بناء شرق أوسط جديد..
وفي بداية ثورات الربيع العربي وبعد إسقاط عدد من الأنظمة (2011)، ساد اعتقاد متفائل بأن الشعوب العربية أمسكت بالمبادرة، وسيكون لها القول الفصل في إعادة ترتيب البيت العربي على أسس وطنية وديمقراطية.. وفي الهزة الارتدادية ساد اعتقاد معاكس بأن الدولة العميقة للأنظمة الرجعية استعادت قوتها.. وكانت سورية في عين العاصفة، وقد استُهدفت كدولة وأرض وشعب، وبدعم سخي من دول الخليج وتفاهم مع الديمقراطيين في البيت الأبيض، وكان من المفترض أن تهيمن حركات الإسلام السياسي على المنطقة من المغرب حتى العراق، مرورا بالدولتين الأهم مصر وسورية.. وكانت «داعش» الناتج العرضي لإخفاق ذلك المخطط، والتي أزيحت من المشهد لفشلها وبشاعتها أولا، ولأنها استنفدت أغراض إنشائها، ليبدأ الغرب الإمبريالي بمشروع جديد.
حاولت إسرائيل بشتى السبل إنهاء منظمة التحرير، أو إيجاد بديل عنها بدءًا بمشروع انتخابات البلديات (1976)، والتي أتت بنتائج معاكسة لما أرادت، مرورا بمشروع روابط القرى، والإدارة المدنية والتي لاقت الفشل ذاته.. وانتهاءً بحربها في الـ 82، حتى اضطرت للاعتراف بالمنظمة في أوسلو.. وبعدها بسنوات قليلة اندلعت الانتفاضة، ثم شنت إسرائيل ما عرف بعملية السور الواقي في الضفة الغربية (2002)، وقيل حينها أن إسرائيل ستضم الضفة، وستعيد ترتيب المعادلة السياسية بحسب ما تريد، وستقوض الحلم الفلسطيني..
عشرات المشاريع الأميركية والإسرائيلية استهدفت اللاجئين الفلسطينيين، والقضاء على المخيم، وتصفية الأونروا، وتقويض حق العودة.. بلغت ذروتها في عهد ترامب السابق، فضلاً عن مشاريع التهجير مرة إلى سيناء، ومرة إلى الأردن، أو إلى كردستان، أو توزيعهم على مدن العالم.. ومع ذلك بقي ستة ملايين فلسطيني فوق أرض فلسطين. ومثلهم في المنافي متمسكون بحق العودة..
وشنت إسرائيل عشرات الحملات الأمنية ومئات عمليات الاغتيال وآلاف الاعتقالات وبأقصى درجات القمع والوحشية بهدف استئصال المقاومة، أو إنهائها، أو حتى إضعافها.. دون جدوى.. وعلى مدى سبعة عقود مارست كل ما تستطيع من بطش، وبكل الوسائل وبآلة حرب جهنمية بهدف تدجين الفلسطينيين، أو كي وعيهم، أو سحق إرادتهم.. وأيضا دون جدوى.
صحيح أن نتيجة هذا المسلسل الطويل من الحروب والصراعات والمشاريع السياسية والمؤامرات أدت إلى تراجعات متواصلة في الجانب الفلسطيني (وبالطبع في الجانب العربي، وربما أكثر)، مقابل إنجازات متتالية لإسرائيل وللمشروع الصهيوني الإمبريالي عموما.. لكن في المحصلة النهائية المشروع الصهيوني لم ينجز غايته الكبرى والأهم، ولم يهجّر الفلسطينيون، ولم ينجح في إلغاء وجودهم السياسي.. في المقابل صمد الفلسطينيون، وبقيت الأرض، وبقيت القضية محتدمة ومتقدة، بل وتزداد توهجاً..
بمعنى آخر ظلَّ الصراع مفتوحاً دون حسم..
صحيح أن الحرب العدوانية على غزة مؤلمة جداً، وتكبدنا فيها خسائر باهظة، ولحد الآن نتائجها كما أراد نتنياهو.. لكنها في السياق التاريخي مجرد جولة دامية، سبقتها جولات، وستتبعها جولات.. وسيفشل نتنياهو في ترتيب المنطقة كما يزعم، ولا أقول هذا من باب المناكفة، أو شعارات، أو لرفع المعنويات.. بل لأن الأطراف الداخلة في الصراع كثيرة ومتناقضة، والعوامل المؤثرة فيه متشابكة ومعقدة، ولا يملك أي طرف مهما بلغت قوته تسيير دفة الأحداث، والتحكم في مجرى التاريخ بحسب ما يريد ويشتهي.
المشاريع المطروحة ليست قدراً محتوماً، وإذا كسبت القوة الغاشمة جولة فهذه مجرد لحظة جنون، لكن التاريخ ليس مجرد لحظة.. التاريخ تصنعه الشعوب الحية، والتي بإرادتها وتضامنها تكسر كل قوة غاشمة.. وأظن أن مائة عام من الصراع لم تكسر الشعب الفلسطيني، وأنه بذلك صار عصياً على الكسر.. وسيستعيد وحدته، ومشروعه الوطني، وسينتصر.