عبد الغني سلامة: عن تظاهرات الجامعات الأميركية
عبد الغني سلامة 6-5-2024: عن تظاهرات الجامعات الأميركية
منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة اندلعت التظاهرات الشعبية المنددة بالاحتلال والحرب والمتضامنة مع فلسطين في أغلب عواصم ومدن العالم، وبأعداد غفيرة.. وما زالت هذه التظاهرات مستمرة حتى الآن، وهي مهمة جداً لإدانة إسرائيل ومحاكمتها، ولجم عدوانها، ولإبراز الرواية الفلسطينية القائمة على قيم الحق والعدالة ومقاومة الظلم والاحتلال.. لكن التظاهرات الطلابية التي اندلعت منذ فترة بسيطة في الجامعات الأميركية، وبدأت تنتقل إلى بعض الجامعات الأوروبية والكندية ربما تكون أهم وأخطر، وتثير قلق إسرائيل والولايات المتحدة بشكل خاص، ذلك لأنها تجري في أعرق وأهم الجامعات، والقائمون عليها والمشاركون فيها هم من نخبة المجتمع، وهؤلاء سيكونون قادة المستقبل وصناع القرار، سواء في الدوائر السياسية، أو في كبريات الشركات.
وهذه الجامعات تتقيد أساساً بنظام تعليمي صارم موجه الغرض منه إيجاد تلك النخب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية التي ستتولى مهمة إدارة الدولة العميقة، وإدامة النظام (غير المعلن) الذي يسيّر البلاد بما يتناسب مع مصالح الطبقات الحاكمة والمسيطرة.. وإذا أدرك هؤلاء الطلبة حقيقة الصراع العربي الصهيوني، وحقيقة إسرائيل العنصرية والعدوانية، وطبيعة تحالفها مع أميركا والغرب ودورها الوظيفي.. إلخ؛ فإن هذا يضع المشروع الصهيوني وتحالفاته مستقبلاً في وضع حرج ومقلق.. وما يخيف إسرائيل أن تنجح الحركة الطلابية في تأسيس مرحلة قادمة من التغييرات في تركبية القاعدة الشبابية في الحزب الديمقراطي، وحتى الجمهوري.
الأمر الثاني أن مطالب تلك التظاهرات محددة وواضحة: وقف استثمارات الجامعات ومقاطعة كل الشركات الداعمة للاحتلال والتي تمد إسرائيل بالسلاح والمواد الأخرى، لأنهم أدركوا أن إسرائيل نظام أبارتهايد، وتمارس الإبادة الجماعية، وتخرق القوانين الدولية، وتنتهك كل القيم الإنسانية والقانونية التي درسوها وتعلموها في تلك الجامعات، ويشعرون بأنها تُدفن في المقابر الجماعية في غزة.
الأمر الثالث، وربما هنا تكمن أهمية تلك التظاهرات، أن الحركات الطلابية في مختلف الجامعات الأميركية لها تاريخ حافل بالإنجازات والتغييرات، وقد لعبت دوراً بارزاً ومؤثراً في التاريخ الأميركي المعاصر وفي تغيير السياسات الأميركية، فمثلاً في حقبة الستينيات من القرن الماضي التحمت التظاهرات الطلابية بتظاهرات السود المطالبين بحقوقهم المدنية، وانتهى الأمر بإقرار كافة الحقوق المدنية للسود وإلغاء كافة أشكال التمييز العنصري التي كانت معتمدة حتى نهاية الستينيات.
وفي حقبة السبعينيات كانت التظاهرات الطلابية الأهم والأبرز ضد حرب فيتنام، والتي كانت من بين أهم أسباب إنهاء الحرب الفيتنامية. أما في الثمانينيات فقد لعبت التظاهرات الطلابية دوراً بارزاً في دفع الولايات المتحدة لإدانة الحكومة العنصرية في جنوب إفريقيا والتخلي عنها، ما انتهى بتفكيك نظام الفصل العنصري وإقامة جنوب إفريقيا الديمقراطية بزعامة مانديلا.
كانت جامعة كولومبيا من أوائل الجامعات التي أطلقت شرارة الاحتجاجات في نيسان الماضي، وهنا لا بد أن نستذكر المفكر الفلسطيني الكبير إدوارد سعيد، الذي ترك في الجامعة (وفي العالم) إرثاً عظيماً.. والمفارقة المستهجنة أن رئيسة الجامعة حالياً «نعمت شفيق»، (وهي من أصول مصرية) أمرت الطلبة بالانصراف وإنهاء الاحتجاج لكنهم رفضوا، فقامت باستدعاء شرطة نيويورك للتدخل وإنهاء الاعتصام بالقوة. بينما كانت رئيسة جامعة هارفارد «كلودين غاين» (أميركية من أصول إفريقية) قد قدمت استقالتها من منصبها في كانون الثاني الماضي، احتجاجاً على ضغوط اللوبي الصهيوني على خلفية وصفها التظاهرات المناهضة لإسرائيل في حرم الجامعة بأنها تندرج في نطاق حرية التعبير.
ومع تصاعد التظاهرات وصف الرئيس بايدن ما يحدث بـ»التصاعد المقلق لمعاداة السامية»، فيما حضر رئيس مجلس النواب مايك جونسون إلى حرم جامعة كولومبيا، وقال أمام صيحات الاستهجان التي قابلته إنه يجب منع انتشار «معاداة السامية» في الجامعات، وإن هذا لا يمت لحرية التعبير بصلة، على حد زعمه، أما نتنياهو فحذر أميركا من تصاعد خطاب معاداة السامية، مذكراً بتظاهرات الجامعات الألمانية في الثلاثينيات من القرن الماضي.
وبطبيعة الحال لم تقتصر محاولات إسكات الطلبة على تلك التصريحات المسيئة والمضللة (وهي مضللة بدليل مشاركة طلبة يهود في التظاهرات)، بل وصل الأمر إلى حد اقتحام الحرم الجامعي، واعتقال مئات الطلبة وبعض الأساتذة، واستخدام القوة والاعتداءات الجسدية بحقهم، حتى أن طائرتين من نوع «كواد كابتر» حلقتا في سماء الجامعة لمراقبة الطلبة، وللمفارقة فهو النوع ذاته الذي يستخدمه جيش الاحتلال في عدوانه على قطاع غزة. ما يفضح ويعري كل ما تدعيه أميركا أنها الديمقراطية الأولى في العالم، وأن حليفتها إسرائيل الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط!
تلك «الديمقراطيات» لم تحتمل سماع أصوات طلبة يحتجون بشكل سلمي على عدوان همجي ضد شعب أعزل، وضد الإبادة الجماعية، وضد الحرب، ومطالبين بسحب الاستثمارات من كل من له علاقة بتمويل ودعم عدوان إسرائيل على غزة.
ستنجح هذه التظاهرات، وستُحدث تغييراً إيجابياً كبيراً، شريطة ألا تتدخل بها الجاليات العربية والمسلمة، والتي بدأت مظاهر تدخلاتها تعطي نتائج عكسية.
والأسئلة المطروحة هنا: متى ستصحو الجامعات الفلسطينية والعربية؟ ومتى سيتخلص الطلبة من عقدة الخوف؟ ومن عقدة السلبية والعزوف عن المشاركة في القضايا العامة؟ وإلى من يظنون أنهم تخلصوا من تلك العقد؛ متى سيخرجون غاضبين من أجل الإنسان والعدالة وقيم الحق والمبادئ والأخلاق العليا، لا من أجل أحزاب وولاءات وأشخاص وأيديولوجيات؟ ومتى سيتخلصون من سجالات الاتهام والمناكفة والتخوين ضد من يخالفونهم الرأي والقناعات.