أقلام وأراء

عبد الغني سلامة: عن المأزق الإسرائيلي

عبد الغني سلامة 2023-10-23عن المأزق الإسرائيلي

وضع هجوم القسام المظفّر إسرائيل في مأزق كبير، فبسبب فداحة الخسائر الإسرائيلية والإهانة التي تلقاها الجيش، وتضرر صورة إسرائيل وانكشاف هشاشتها، وعدم قدرتها على حماية مشاريع دولية يجري الإعداد لها (بديل عن قناة السويس، وطريق الهند إسرائيل المار بدول الشرق الأوسط) وهي مشاريع أميركية هدفها التصدي للصعود الصيني والروسي، وأيضاً توقف قطار التطبيع، ومشروع السلام الإبراهيمي.

 

بالإضافة لسقوط وانتهاء سياسة نتنياهو السابقة والتي استمرت طيلة الأعوام الستة عشر السابقة، والمتمثلة بتقديم تسهيلات معينة لحماس لضمان ديمومة حكمها لغزة، مثل تمرير المنحة القطرية، وبعض التسهيلات الشكلية التي تبقي حكم حماس مقبولاً ولا يصل إلى حد الانفجار الشعبي، والهدف منها إدامة الانقسام، والتهرب من أي تسوية سياسية مع الفلسطينيين، وحجة عدم وجود شريك للسلام، والتصرف من منطلق أنها تجاوزت القضية الفلسطينية، ودجنت الفلسطينيين، وأنها تسيطر على كل شيء أمنياً.

الآن كل هذا انتهى، أو تأجل، أو تعطل.. وصارت إسرائيل مجبرة على ترميم صورتها أمام جمهورها وأمام حلفائها واستعادة قوتها الردعية، ومعنية بالانتقام وتدفيع الفلسطينيين ثمناً باهظاً.. وهذا يتطلب هزيمة حماس وسحقها ومحوها عن الوجود، كما عبر عن ذلك حرفياً جميع القادة الإسرائيليين، وأيدهم بذلك الأميركيون والأوروبيون.

السؤال المطروح: ماذا يعني تصفية حماس وسحقها؟ أظن أن الإجابة مبهمة وغامضة في الذهن الإسرائيلي أولاً، وهي فكرة شبه مستحيلة، ببساطة لأن حماس حركة جماهيرية ممتدة، وهي تجسيد لفكرة المقاومة المتجذرة في الوعي الفلسطيني، وقد اكتسبت الحركة شعبية إضافية بعد هذه الحرب، إن لم يكن في غزة، ففي الخارج وإعلامياً، وثانياً قيادات حماس السياسية والعسكرية خارج فلسطين، فهل بوسع إسرائيل اغتيالهم جميعاً؟ وهل ستنجح في دفع الدول التي تستضيفهم لطردهم؟ وهي دول على علاقة بإسرائيل (تركيا وقطر)، وإلى أين ستطردهم؟

وإذا واصلت إسرائيل الحرب الجوية كما فعلت في الحروب الست السابقة، فلن تتمكن من تدمير مقدرات حماس العسكرية (منصات الصواريخ، ومخازن العتاد، والأنفاق..)، وستنتهي الحرب بخسائر فلسطينية فادحة (آلاف الشهداء من المدنيين، وتدمير منشآت وبيوت وبنية تحتية..)  لكن حماس ستعيد بناء قوتها العسكرية، وربما تعود أقوى من السابق، بدليل الجولات السابقة.

فإذا أرادت إسرائيل تدمير قدرات حماس العسكرية فليس أمامها إلا الحرب البرية.. وهي مسألة ليست هينة بالمطلق، وبحسب تقديرات الخبراء العسكريين وحشود الدبابات وتجنيد الاحتياط (والدعم المباشر من أميركا) فإن الاجتياح البري مسألة وقت.

البعض يتوقع أن إسرائيل لن تقدم على الاجتياح البري لتخوفها من التكلفة الباهظة والخسائر المحتملة في الجنود.. ولكن حتى لو توقعت إسرائيل تكبدها خسائر كبيرة في الأرواح، فهل هذا سيردعها؟ إسرائيل خسرت مسبقاً وبضربة واحدة نحو 1300 قتيل، لكن هذا أدى إلى توحيد جبهتها الداخلية، وتجميد تناقضاتها العديدة والعميقة، وإيقاف حالة الاستقطاب والشرخ الذي كاد يؤدي بها إلى حرب أهلية، فضلاً عن حصولها على دعم أميركي وأوروبي غير مسبوق، ليس عسكرياً وحسب، بل سياسياً، بعد أن كانت علاقتها مع البيت الأبيض في أسوأ حالاتها، وبعد أن قاطعت دول العالم خطاب نتنياهو في الأمم المتحدة، كما أنها كسبت إعلامياً عبر حملة ممنهجة زائفة أدت إلى تعاطف الرأي العام العالمي معها.. هذه حقائق ينبغي استحضارها بعيداً عن العواطف الجياشة والتفكير الرغائبي.

وإذا حصل الاجتياح البري، وتمكنت إسرائيل (لا قدر الله) من تدمير منصات الصواريخ، والأنفاق ومخازن العتاد، وقتل واغتيال القادة الميدانيين والكوادر التنظيمية.. بمعنى أنها جردت حماس من قوتها العسكرية، وفرضت سيطرتها على القطاع.. كل هذا لن ينقذ إسرائيل، ولن يكون انتصاراً (بالمعنى السياسي) حيث إنها ستجابه مقاومة شعبية شديدة، وستجد نفسها مجبرة على الانسحاب، وحينها ستكون قد خلقت لنفسها أزمة جديدة، سيرى العالم حجم الدمار وصور جرائمها المروعة.. وستكون أمام السؤال الصعب: من سيتولى حكم القطاع بعد حماس؟ فإذا تُرك بلا قيادة ستعم فيه الفوضى وسيتحول إلى أكبر مصدر للعنف يهدد إسرائيل قبل غيرها.

ولن تجد إسرائيل من يقبل بحكم القطاع؛ السلطة ترفض بالمطلق العودة إلى غزة بالدبابات الصهيونية، ومصر ترفض لأسباب عديدة ومعروفة، والجامعة العربية ستكون عاجزة عن ذلك، وحتى إدارة مؤقتة من الأمم المتحدة، أو من قوة دولية لن تكون لا قادرة على ذلك، ولا مقبولة من الناس.. وإسرائيل غير راغبة في العودة إلى احتلال غزة والإقامة فيها.

قد تنجح إسرائيل في دفع أعداد كبيرة للنزوح إلى سيناء، والتسبب بنكبة جديدة، وخلق مشكلة كبيرة لمصر لكن ما الجدوى السياسية لإسرائيل من وراء ذلك؟ بل إن صمود أهل غزة كشف لإسرائيل أن مشروع الترانسفير الكبير الذي تعد له في الضفة ليس واقعياً، وربما صار مستحيلاً.

ستواصل إسرائيل هجومها الهمجي، وستقترف مذابح وستدمر البيوت والمنشآت.. لكنها لن تحقق أي انتصار سياسي، ولن تنهي القضية، ولن تهزم الفلسطينيين، ولن تحقق الأمن لسكانها، وستدرك أن الأسوار والأسلاك لم تحمها، وأن تجاهلها للقضية الفلسطينية هو الذي أوصلها لهذه الهزيمة الفضحية، ولن يطول خداعها للعالم الذي سيكتشف أن كل ما فعلته عبارة عن مجزرة دموية بحق المدنيين، وأنها مجرد عصابة لقتل الأطفال.. وستظل إسرائيل في حالة حرب مع الفلسطينيين جيلاً بعد جيل، وستتفاجأ مرة ثانية وثالثة بهجمات غير متوقعة إن لم يكن من حماس، فمن غيرها؛ من شبان ثائرين، ومن الأجيال التي ولدت وعاشت في غزة ولم ترَ من إسرائيل سوى الحروب والقتل والدمار، ومن شبان الضفة الذين لا يرون سوى التنكيل والحواجز العسكرية وعنف المستوطنين.. ستدرك إسرائيل أن حبس الفلسطينيين في أكبر سجن في العالم لم يعد محتملاً، وأنها تواجه شعباً كاملاً ومن العبث التفكير بإفنائه، أو هزيمته.. وربما تجد نفسها مرغمة على الجلوس على طاولة المفاوضات مع حماس نفسها، أو مع أي فلسطيني آخر، فهذه الأرض تتسع لمئات الهويات لكنها لا تتسع لاحتلال واحد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى