أقلام وأراء

عبد الغني سلامة: عن الافتراق في الوعي

عبد الغني سلامة 25-9-2024: عن الافتراق في الوعي

لا شك عندي أنّ الشعوب العربية تحب فلسطين، وتقف إلى جانبها، وتعادي إسرائيل وسياساتها.. ولكن لو تأملنا في هذا الموقف سنجد أنه مبني على تصورات ذهنية، ففلسطين في الوعي العربي هي الوطن السليب، والأرض المغتصبة، والقضية العادلة، وإسرائيل هي المعتدية والمشروع الإمبريالي المعادي للأمة.. وقد نشأ حبهم لفلسطين من الثقافة السائدة، والتي يطغى عليها الجانب الديني والأيديولوجي وحتى السياسي؛ فهي المسجد الأقصى، والأرض المقدسة، وقصص الفدائيين وبطولاتهم. 

كل ما سبق جميل، ومشروع، ومهم.. ولكنه نشأ وتشكّل ونما بمعزل عن الواقع الموضوعي، وبالذات بمعزل عن الفلسطينيين أنفسهم، أصحاب الأرض والقضية.. بمعنى أنهم يحبون فلسطين ويتعاطفون مع قضيتها، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أنهم يحبون الفلسطينيين.. ودلائل ذلك كثيرة. 

وهذا الأمر يمكن إدراجه ضمن الطبيعي والمتوقع، لكن هناك مستوى آخر من الانفصال، فالمواطن العربي عموماً لديه تصور معين عن القضية وحلّها ومن يمثلها.. إلخ. ولو تصادف أن التقى بفلسطيني واكتشف أنه يحمل آراء وتوجهات مغايرة على الفور تظهر العدائية والرفض والازدراء وربما التخوين والتكفير، فالفلسطيني الجيد هو الذي يحمل نفس أفكاره وتوجهاته، أما المختلف فهو لا يمثل فلسطين، ولا ينتمي إليها!

على المستوى الرسمي المسألة أشد وضوحاً، فبعض الدول التي تُظهر مدى حبها لفلسطين، وتتغنى بها، هي ذاتها التي ترفض منح الفلسطيني فيزا لدخول أراضيها، وتعامله معاملة سيئة في المطارات وعلى الحدود.. وبعضها بمجرد نشوء خلاف سياسي مع أي طرف فلسطيني لن تتورع عن تبني أساليب تضييق على الفلسطينيين لديها.

المشكلة ذاتها موجودة لدى الفلسطينيين أنفسهم المقيمين خارج فلسطين، وأقصد حالة الانفصال.. فنصف الشعب الفلسطيني يعيش في المنافي بعيداً عن الوطن ومنذ زمن طويل. وبحسب الدكتور فضل عاشور، فإن الزمن لم يفصلهم عن القضية الفلسطينية نفسها، لكن هذا الزمن فصلهم وولّد لديهم اغتراباً عن واقع الفلسطينيين المقيمين في فلسطين.

ومع مرور الوقت صار هؤلاء يرون فلسطين كواقع تخيلي، ضمن علاقة عاطفية ووجدانية محضة، علاقة حب للمكان (الأرض) وتقديس لرموزه الوطنية والدينية، وحنين للعودة، وأشواق مخبأة لذكريات الماضي والأجداد.. وضمن فهم سياسي وأيديولوجي معين، يحمل بالضرورة معاداة إسرائيل، إما لأسباب دينية أو قومية أو وطنية، وبعضهم لا يقبلون أي حل سياسي لا يتضمن إزالة إسرائيل من الوجود وتصفيتها كلياً.. أي أنهم ينظرون للصراع بصفة كلية ووجودية ضمن معادلة صفرية، بمعزل عن أي واقع سياسي ودون الاهتمام لما تسمى موازين القوى، والنظام العالمي، وأساليب الكفاح التي يجيزها القانون الدولي، والإمكانيات المتاحة، ومعطيات الواقع، وظروف المرحلة.. إلخ.. هذا كله هراء.. والأسلوب الوحيد الصحيح هو العمل العسكري، والمقاومة الوحيدة الصحيحة هي المواجهات العسكرية المباشرة بأعلى قدر ممكن من العنف.

هذه وجهة نظر تُحترم، ولسنا بصدد مناقشتها، لكن علاقة أهل الأرض المحتلة بالقضية مختلفة؛ فبالإضافة إلى ما سبق، ولكونها قضية تحرر من الاحتلال، وقضية حرية وكرامة واستقلال، ثمة أمور أخرى على درجة عالية من الأهمية؛ فالقضية عندهم حالة اشتباك دائمة، وواقع معاش يتغلغل في تفاصيل حياتهم: التعرض للقتل، الاعتقالات، مداهمة البيوت، اجتياح المدن، هدم المنازل، مصادرة الأراضي، تعديات المستوطنين، القصف، الحواجز، الطرق الالتفافية، الإضرابات، المواجهات، إغلاق المؤسسات، تعطيل الحياة، قيود على التنقل والتجارة، قمع، تنكيل.  

ومن هنا نشأ الافتراق في الوعي في فهم القضية والتعاطي معها، فالعلاقة الوجدانية الافتراضية بفلسطين، والفهم السياسي/ الأيديولوجي للقضية والصراع جعلا فلسطينيي الخارج يرون قضية فلسطين بمعزل عن الفلسطينيين داخل الأرض المحتلة كشعب حامل للقضية وكأصحاب الأرض.. صاروا يرون صراعاً بين فلسطين (المتخيلة) ضد إسرائيل، وليس صراعاً بين الفلسطينيين وإسرائيل، وبما أنه صراع بين فكرتين ومشروعَين متناقضَين لا أهمية هنا للناس الذين يخوضون الصراع؛ هم مجرد أدوات ووقود للحرب.. وبالتالي سيرون نتائج هذا الصراع على إسرائيل فقط (والتي يرغبون بمقاومتها وإيذائها وهزيمتها) ضمن تعلقهم العاطفي الذي ما زال مقتصراً على القضية الفلسطينية (كقضية سياسية) وعلى الوطن (كحالة حب وانتماء وجداني)، لذلك بصعوبة بالغة سيرون نتائج الصراع على الفلسطينيين الموجودين على الأرض وتبعات ذلك على بقاء القضية الفلسطينية نفسها، وبعضهم لا يرغب ولا يهتم برؤية هذا الجانب، أو يتجاهله.

بكلمات أبسط: صار هناك انفصال في الوعي تجاه القضية الفلسطينية بين فلسطينيي المنافي من جهة والفلسطينيين الموجودين على أرض فلسطين من جهة أُخرى. وهذا ما يفسر رغبة من هم في الخارج في دموية الصراع وزيادة وتائر عنفه إلى أقصى حد، ومطالبتهم لفلسطينيي الداخل بالتضحية بأنفسهم، لإيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر بإسرائيل حتى لو كان ذلك سيؤدي إلى خسائر فادحة في صفوفهم تفوق بعشرات ومئات الأضعاف خسائر الإسرائيليين، ولو كانت خسائر الفلسطينيين مئات آلاف الشهداء، ولو أدى ذلك إلى طردهم وتهجيرهم وفقدانهم وطنهم، ولو كانت خسائرهم مادية ووجوديه وجوهرية بتكلفة باهظة لا تطاق من الناحية الإنسانية.. فهذه الخسائر يتم النظر إليها على أنها خسائر جانبية وضرورية من أجل اكتمال الصورة الذهنية المرسومة عن القضية الفلسطينية كحاله نظرية وعاطفية، أو دينية لدى البعض.

بالنسبة لهؤلاء، الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني المقاتل، المسلح، أو الشهيد أو الجريح، أو من تهدّم بيته، أو الأسير كحد أدنى.. أو من هم على قائمة انتظار الشهادة والأسر.. وما دون ذلك لا قيمة لهم، ولا أهمية لحياتهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى