عبد الغني سلامة: «طوفان الأقصى» والأسئلة المحيّرة

عبد الغني سلامة 7-10-2024: «طوفان الأقصى» والأسئلة المحيّرة
تجاهل المخططون لعملية «طوفان الأقصى» حقيقة الكيان الصهيوني، ولم يقدّروا طبيعته المتوحشة، ولم يدركوا خطورة اكتمال التحول إلى أقصى اليمين في المجتمع الإسرائيلي، متجسداً في حكومة شملت كامل طيف اليمين الصهيوني الفاشي، الذي يحلم ليل نهار بالقضاء على الفلسطينيين، حيث أنَّ خطورة عملية السابع من أكتوبر، والتي فاقت كل العمليات العسكرية التي نفّذتها المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال، حتّمت أن يتعدّى ردّ الفعل الإسرائيلي بدوره كل ما سبق للجيش الصهيوني أن نفّذه من اعتداءات على غزة، وأن ينتهز أقصى اليمين الصهيوني فرصة «الصدمة الكبرى» كي يشرع في تنفيذ مخططه لتحقيق «إسرائيل الكبرى»، بمحو ما تبقى من فلسطين وإبادة شعبها قتلاً وتهجيراً، بادئاً بقطاع غزة.
أما الخطأ الثاني في الحساب، فكان في إسقاط الرغبات على الواقع، والرهان على المعجزات الإلهية، وأنَّ العملية ستفجر حرباً شاملة على إسرائيل، سيتجنّد فيها كافة الفلسطينيين أينما كانوا، والعرب والمسلمون.
اتخذ قرار الحرب بصورة فردية وارتجالية، ودون قيادة جماعية، ودون دراسة وإعداد مسبق وكافٍ، ودون مشاورة حتى الشركاء، ودون خطة إستراتيجية تأخذ بالحسبان جميع الحسابات والتوقعات والاحتياطات والخطط البديلة.. بالاعتماد على شعارات ثورية وقومية ودينية، والرهان على عناصر مساعدة ودعم سيأتي من الخارج، أو من الغيب.
لم يتم بناء تقدير موقف إستراتيجي على أُسس علمية وعسكرية.. وزيادة على المبالغة في تضخيم الذات، كانت استهانة كبيرة في تقدير قوة وقدرات العدو، وفهم طبيعته، وتحالفاته، وتوقع خططه.. وكان يتم الرهان على عناصر أخرى، تبين أنها غير جديرة بالرهان عليها، أو أنها مجرد أوهام وتمنيات.
الجماهير مجرد وقود للحرب، وقرابين للنصر، وأرقام يسهل التضحية بها، ولا قيمة هنا للحياة، وللإنسان وكرامته ولحقّه في الاختيار، ولا أهمية لمعاناتهم وخسائرهم المادية والمعنوية، ولا أهمية لمستقبل الشعب والبلد، المهم الحفاظ على الحزب الحاكم، وبنية المقاومة وقيادتها.
وقد رأينا كيف أعدت «حماس» خطة محكمة للهجوم، وكيف استعدت جيداً للدفاع، وكيف استبسل جنودها وأظهروا شجاعة فائقة، واستعداداً عالياً للتضحية.. لكنها أخفقت في جانب إستراتيجي بالغ الأهمية؛ حيث أنها لم تهتم بتأمين الجبهة الداخلية، ولم تحسب حساباً لما يمكن أن يواجهه الناس من آلام ومآسٍ.. لم تهتم بتأمين مستلزمات الحياة الأساسية وأدوات النجاة بما يمكّن الناس من الصمود ومواجهة تبعات الحرب.
وفوق هذا التقصير، دأب الخطاب الإعلامي لـ»حماس» على تجاهل الأعداد الهائلة من الشهداء ومعاناة الناس وعذاباتهم، وتجاهل الخسائر الفادحة التي أصابت كل مرافق الحياة.. مكتفياً بترديد الشعارات والخطابات الحماسية، والتأكيد على وجوب التضحية والصمود مهما بلغت الأثمان.. وفي خطاب للسنوار قال: «نحن في حماس ومعنا الشعب الفلسطيني جاهزون لأن نفنى جميعاً ولا أن نقبل الصفقة، وجاهزون لأن نُقتل عن بكرة أبينا، حتى آخر طفل فينا، وأن نُحرق نساء وأطفالاً كما حُرق أصحاب الأخدود ولا أن نتنازل عن ثابت واحد من ثوابتنا». أما قائد آخر فقال: «في كل مرة أقول وأكرر، إن دماء الأطفال والنساء والشيوخ لا أقول تستصرخكم؛ بل إننا نحتاجها لتوقظ فينا روح الثورة والعناد».
وفي الحقيقة يصعب فهم كيف أننا نحتاج دماء الأطفال والنساء لتوقظنا! وكيف تكون الحركة مستعدة وبإصرار على التضحية بهم، ودفعهم نحو الموت مقابل شعاراتها وثوابتها. وكيف نضحي بالشعب كله، حتى آخر طفل!
وفي مقارنة غير صحيحة، يجري التباهي بإجبار إسرائيل على إخلاء مستوطنات غلاف غزة والشمال، ومع أهمية ذلك، إلا أنه غير كاف، فشتان بين إخلاء المستوطنين إلى فنادق ومنتجعات ومنازل مريحة وآمنة، وبين نزوح أهالي غزة الإجباري، وفي ظروف مأساوية بالغة السوء والخطورة.
من بين مبررات «طوفان الأقصى» فشل مسار السلام والمفاوضات، وبالتالي البديل هو الحرب. علماً أن من أفشل مسار السلام وداس على اتفاق أوسلو بالدبابات هي إسرائيل، لأنها لا تريد السلام، فهذا المسار يضعها في مأزق وجودي، ويفرض عليها استحقاقات كثيرة تحاول دوماً التهرب منها، ولذلك تفضل الحرب على السلام، فهذا يتناسب مع طبيعة إسرائيل ودورها الوظيفي، ويلائمها لأنها دولة مدججة بالسلاح ومتخمة بالقوة، وتفضل المواجهات العسكرية على السياسية لأن الحرب والعدوان ساحتها المفضلة التي تمتلك فيها ميزة التفوق.
كما حدد خطاب محمد الضيف هدفاً مهماً ومشروعاً وهو إنهاء الحصار على غزة، والسؤال هنا: ألم يكن ذلك ممكناً بوسائل أخرى؟ مثلاً إنهاء الانقسام، وتسليم معبر رفح للسلطة الوطنية.
أما عن هدف تحرير الأسرى، فمن المؤكد أن قيادات «حماس» نفسها ترفض فكرة مقايضة نحو خمسة آلاف أسير (عدد الأسرى قبل الحرب) مقابل استشهاد نحو 50 ألف فلسطيني وتدمير غزة.. حتى الأسرى أنفسهم يرفضون ذلك، ولا شك أن حسابات «القسام» كانت مختلفة، ولم تتوقع كل هذه الوحشية الإسرائيلية، وبالتالي تحولت صفقة التبادل من هدف وسبب إلى إحدى نتائج الحرب، ومحاولة الخروج بمكاسب.
وفي سياق متصل، لا شك أن «طوفان الأقصى» أعاد القضية الفلسطينية إلى الواجهة.. والسؤال الأول: من الذي تسبب بتغييب القضية أساساً؟ ألم يكن الانقسام وسوء أداء الجميع؟ ألم يكن ممكناً إعادة القضية إلى الواجهة بوسائل أخرى؟ ألم يكن ممكناً مجابهة العدو، ومقاومته شعبياً وعسكرياً والاشتباك معه يومياً ولكن بوسائل أقل كلفة؟
مثلاً إنهاء الانقسام، وإجراء انتخابات عامة، ودخول الكل في منظمة التحرير، وإعادة الاعتبار لها، وتقوية دورها.. إلخ. ثم التقدم بمبادرة سياسية ذكية وشجاعة تكسر حالة الجمود وتنهي الركود السياسي، سيما إذا كانت مبنية على وحدة موقف فلسطيني متفق عليه من قبل الجميع.
والأهم من إعادة القضية إلى الواجهة هو كيفية إعادتها، وبأي صورة، والأهم كيفية استثمار ذلك سياسياً.. فـ»طوفان الأقصى» ربما أتى بنتائج معاكسة، أي أنه أضعف الطرف الفلسطيني، وبالتالي صار في وضع أسوأ من السابق، وخلافاً لما يُقال إنه وجه أنظار العالم نحو فلسطين، وغيّر مفهوم القضية لدى العالم؛ فما حدث بعد ذلك أن إسرائيل تمكنت من تصوير نفسها أمام العالم وكأنها في موقع الدفاع عن النفس، وأنها الجهة المعتدى عليها وليس العكس، وصوّرت عدوانها في نظر العالم بأنه حرب مشروعة ضد «حماس» (التي يصنفها العالم على حد قولهم حركة إرهابية)، وليست حملة إبادة ضد الأرض والإنسان الفلسطيني، أو على الأقل حققت نجاحات جزئية بهذا الاتجاه.
بات العدوان المتواصل على غزة غطاءً تمارس من تحته إسرائيل انتهاكاتها في الضفة الغربية دون ضجيج، وتواصل اعتداءاتها في باحات المسجد الأقصى وسائر مدن فلسطين، وحتى اعتداءاتها على لبنان، والأخطر من ذلك أن سقوط الضحايا يومياً وبأعداد مرعبة، وهذا الحجم المخيف من التدمير صار حدثاً يومياً، ويتكرر على وسائل الإعلام حتى صار عادياً، ولا يثير انتباه أحد، بمعنى أن العالم اعتاد على ممارسات إسرائيل الإجرامية، وقد استغلت إسرائيل ذلك بتنفيذ كل ما كانت تنفذه سابقاً بحذر وبطء وضمن حسابات.. فصارت تنفذه بسرعة وكثافة ودون أي حسابات.
ندرك تماماً أن إسرائيل ستواصل اعتداءاتها في كل الأحوال، وحتى لو لم تنفذ «حماس» هجومها، كانت ستضرب غزة، وهي لن تترك الفلسطينيين بحالهم، حتى لو رفعوا الراية البيضاء، بل ستطالبهم بمزيد من الاستسلام.. هذا دور إسرائيل المعروف.. بيد أنه ثمة فرق كبير بين أن تشن إسرائيل اعتداءاتها دون ذريعة، وأن تشنها ومعها ذريعة وحجة، وقد حولتها إلى شرعية سياسية وقانونية، وحظيت بتأييد المجتمع الدولي.
نعم، كان بوسعنا تجنب الحرب، وفي هذه الحالة من شبه المؤكد أن الوضع الذي كان قائماً سيظل سائداً، وسيشهد مزيداً من التراجع والتدهور وقد تصل الأمور إلى تصفية القضية.
فلولا هجوم طوفان الأقصى لما توفرت لإسرائيل تلك الذريعة القوية التي استغلتها أبشع استغلال، ولما قامت حرب بهذا الحجم والكارثية، ولتجنبنا سقوط هذه الأعداد المهولة من الضحايا.. ولكن ذلك سيعني استمرار مسار سياسي متسارع في تهاوي القضية الفلسطينية، واستمرار التطبيع، وسياسات فرض الحقائق على الأرض بقوة الاحتلال الغاشم، وتوسع الاستيطان، وتهويد القدس، في ظل استمرار وتعمق الانقسام الفلسطيني.. وهذه أمور في غاية الخطورة.
لكن السؤال المقابل والذي لا يقل أهمية: هل من ضمانة بأن «طوفان الأقصى» سيقلب هذا المسار السياسي بالاتجاه الوطني الذي ننشده جميعاً؟ هل سيكون فعلاً بوسعه لجم الاستيطان، ومنع تهويد القدس، ومنع اقتحامات الأقصى، وإيقاف مسلسل التطبيع؟ هل سيعيد الحياة للسياسة الفلسطينية بدفعة ثورية جديدة، وينهي الانقسام؟
لا أحد يمتلك مثل هذه الضمانة، ولا أحد بوسعه التأكيد بثقة مطلقة أن «طوفان الأقصى» سيغير كل شيء إيجابياً ووطنياً، بل بالعكس، ثمة مؤشرات عديدة تشي بأن الأمور قد تعود مجدداً بمسار سياسي أسوأ من السابق، ومفروض على الجميع، ولا يحقق المصالح الوطنية الفلسطينية، وربما يقود إلى نكبة جديدة بمعنى الكلمة.
صحيح أن إسرائيل كانت ستهاجم غزة في كل الأحوال، حتى لو أنَّ «حماس» لم تنفذ هجومها في السابع من أكتوبر، لكن ليس صحيحاً أنها كانت ستُلحق بغزة كل هذا الدمار، وستقتل هذا العدد المهول من المدنيين.. مع إدراكنا العميق أن إسرائيل منذ قيامها وهي تستهدف الشعب الفلسطيني، وتسعى للقضاء عليه، وتخطط لتهجيره من وطنه.. لكنها لم تفعل ما فعلته في غزة، وبهذا الحجم من العدوان والشراسة لولا ذريعة 7 أكتوبر، فقد عجزت عن فعل ما هو أقل من ذلك طوال ستة عقود من احتلالها للضفة الغربية، وخلال ست حروب شنتها على قطاع غزة، وعجزت عن ذلك إبان نكسة حزيران، رغم أجواء الهزيمة العربية المدوية، وعجزت عنه إبان الانتفاضة الأولى التي أحرجتها وأربكتها، وعجزت عنه خلال الانتفاضة الثانية رغم طابعها العسكري العنيف، ورغم خسارتها أزيد من ألف قتيل.. لكنها بتوفر ذريعة 7 أكتوبر فعلت ما كانت تحلم به منذ زمن، وما كانت تخطط له وتنتظر الفرصة المناسبة لتنفيذه.
وفي السياق ذاته، ليس صحيحاً أنه «لم يعد للشعب الفلسطيني ما يخسره»، وبالتالي عليه الإقدام على خطوة كبيرة وجريئة.. هذا طرح تبريري وعاطفي، وقد يخلو أحياناً من الضمير الإنساني، فالإنسان الفلسطيني قد يخسر عينه أو ذراعه، أو يخسر أطفاله، أو والديه، أو زوجته، أو كل أهله، وحتى جيرانه، وقد يخسر بيته ومصدر رزقه، ومدخراته، بل وحياته، وقد يخسر حاضره ومستقبله.. أليست تلك خسارات باهظة؟! وهي خسارات غير قابلة للتعويض، أليس مجموع تلك الخسارات الشخصية خسارة كبرى للمجتمع، ولفلسطين؟
هذه الخسارات ورغم فداحتها تكون مقبولة ومحتملة حين تكون في سياق ثورة شعبية وبرنامج سياسي يقود إلى التحرير والخلاص، برنامج واقعي ومدروس، وليس في سياق عمل غير مدروس، ومبني على حسابات ورهانات خاطئة، ويصب في مصلحة حزب، أو أجندات إقليمية، لا علاقة لها بالشعب الفلسطيني وهمومه وطموحه.
قرار الحرب في مثل الوضع الفلسطيني يتضمن مخاطر كبيرة وربما يقود إلى هزيمة، إضافة للخسائر البشرية الباهظة هناك مخاطر التهجير وإعادة احتلال القطاع، وتوفر ظروف أفضل لإسرائيل لحسم الصراع في الضفة من خلال توسعة الاستيطان والاستفراد بالفلسطينيين ودفعهم للهجرة نحو الأردن، وفي أجواء الهزيمة وتراجع الحالة الفلسطينية سيتسارع قطار التطبيع إلى حد تصفية القضية.
ما الخيار الأفضل: «طوفان الأقصى» أم استمرار الوضع كما كان؟ المقاربة في الاختيار تحتاج إلى نقاش مستفيض وميزان دقيق لتبني المسار الأمثل؛ فلكل مسار حجته ومبرراته ومخاطره، ولا أحد يملك الحق في الادعاء بامتلاك الحقيقة الوحيدة.
نعم، كان ممكناً تفادي نكبة جديدة، وتهجير سكان غزة، وتجنيبهم كل هذه الويلات والتضحيات، لو كنا جميعاً نفكر بنفَس وحدوي، ولو كنا نمتلك إستراتيجية كفاح وطني، ولو كنا موحدين ومتفقين، ولو تخلينا عن التفكير الفصائلي والحزبي، وتجاوزنا فكر ونهج الخطابات والشعارات، وتقدمنا ببرنامج نضالي عقلاني وواقعي.. لو أدركنا حقاً أننا ما زلنا في مرحلة الصمود والثبات، وأن الأولوية لدعم وتعزيز هذا الصمود، وأنّ رهاننا يجب أن يكون على أنفسنا بالدرجة الأولى، وأنَّ مرحلة الحسم والانتصار ما زالت هدفاً بعيداً، وأن درب النضال والحرية طويل وشاق.
وهذا يعني أن الجميع يتحمل مسؤولية ما حصل؛ «حماس»، بانقلابها، وبسعيها أن تكون بديلاً عن المنظمة، ولاعتقادها أنها باتت تمثل الكل الفلسطيني، وأن أسلوبها «العسكري» هو الأسلوب الوحيد والصحيح في المقاومة، وأنها وحدها من يمثل المقاومة، وبإقدامها على العملية المغامرة، وحساباتها المبنية على الأوهام، ورهاناتها الساذجة، ودخولها لعبة المحاور الإقليمية، وعدم الاكتراث بالتضحيات الهائلة، وبحياة الناس ومستقبلهم، وعدم الإعداد للجبهة الداخلية، وترك الناس لمصيرهم، وبخطابها الإعلامي الحزبي، والمنفصل عن الواقع.
و»فتح»؛ بتقاعسها وترهلها وتراجع دورها النضالي والسياسي، وتغييب جماهيرها.. والسلطة بمساراتها الخاطئة، وتهميشها للمنظمة، وعقليتها الأمنية، ورهاناتها على الوعود والسراب، وبإلغائها الانتخابات.. والجماهير بصمتها وسلبيتها.