عبد الغني سلامة: دلالات الرد الإيراني
عبد الغني سلامة 15-4-2024: دلالات الرد الإيراني
في بداية نيسان الحالي، قصفت إسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق، موقعة قتلى وصل عددهم إلى 16، من بينهم قيادات بارزة في الحرس الثوري، ومن قبلها اغتالت عددا آخر من قيادات إيرانية بارزة، فضلا عن قصفها أهدافا إيرانية وسورية ولـ»حزب الله» في داخل الأراضي السورية تجاوزت الثلاثين اعتداء. وكانت في كل مرة تتوعد إسرائيل بالرد، متذرعة بسياسة الصبر الإستراتيجي. لكن ضرب القنصلية الإيرانية يعني ضربة مباشرة لإيران؛ ضربة موجعة ومحرجة لدرجة تجبرها على الرد المباشر.
وبعد طول انتظار وتوقعات بضربة إيرانية موجعة استهدفت إسرائيل بنحو 300 صاروخ باليتسي وطائرة مسيرة انتحارية، وبحسب البيانات الإسرائيلية فإن هذه الضربة لم تتسبب سوى بأضرار طفيفة، ولم توقع قتلى.
وهذه ثالث مرة تتعرض فيها إسرائيل لقصف من قبل دولة معادية، الأولى كانت في عهد صدام حسين، والثانية تمثلت في المسيّرات التي أطلقها الحوثيون ووصل بعضها إلى إيلات.. وهي الأولى بالنسبة لإيران، بحيث ترد بنفسها، ومن داخل أراضيها، ما يعد تغيرا في السلوك الإيراني، ورفعا لسقف التحديات ضد إسرائيل، وضد القواعد الأميركية في المنطقة.
من الواضح أن الهجمة الإيرانية كانت محسوبة بعناية ومقننة وعن قصد ودراسة، فمن شبه المؤكد أن إيران ادخرت قوتها الحقيقية ولم تستخدم منها سوى جزء يسير، فلو أرادت تنفيذ ضربة إستراتيجية مزلزلة (كما تتوعد دائما) لما انتظرت كل هذا الوقت، ولما أعلنت عن نيتها توجيه ضربة، بل وتحديد ميقاتها، ما مكّن إسرائيل وحلفاءها من الاستعداد. إضافة إلى أنها استعجلت في إعلان التهدئة؛ حيث أعلنت بعثتها لدى الأمم المتحدة، أنّها اكتفت بإطلاق المسيّرات والصواريخ باتجاه إسرائيل وبالتالي «يمكن اعتبار الأمر منتهيا».
ومع أن الهجوم الإيراني كان محسوبا، بحيث لا يلحق أضرارا قد تجرها لحرب إقليمية.. لكن قيمة الضربة الإستراتيجية أنها استهدفت قاعدة «نتفيم» الجوية في النقب التي انطلق منها الهجوم على القنصلية الإيرانية بدمشق، وضربها بصاروخ لم تتمكن كل الدفاعات الجوية الإسرائيلية والأميركية وغيرها من اعتراضه تدلل على قدرة إيران على توجيه ضربات دقيقة لمواقع إستراتيجية حساسة، وهذا أكثر ما يخيف إسرائيل.
بعيدا عن نظريات المؤامرة الساذجة، وتصوير الأمر وكـأنه مجرد مسرحية، ودون تهويل ومبالغات، لنجرب ولو مرة أن نتحرر من التفكير الرغائبي والسطحي، والتسرع بإطلاق الأحكام، دون تشنجات ومواقف مسبقة مبنية على حسابات طائفية وقومية مقيتة، ومتكئة على أيديولوجيات مطلقة.. لنحلل الهجمة الإيرانية وتداعياتها بعقلية منفتحة..
لا يتسع المقال لتقييم الموقف الإيراني الكلي، أي النظر إلى إيران كدولة ونظام، ضمن السياق التاريخي والسياسي للمنطقة، سنكتفي بالإشارة إلى أن إيران (الدولة)، وبحكم تاريخها وثقافتها ومكانتها يجب وبالضرورة أن تكون في صف المظلومين والمقهورين، وضد الإمبريالية والصهيونية، وداعمة لقضية فلسطين ولشعبها، وللقضايا العربية عموما.. هذا لم يحدث بالصورة المطلوبة لأسباب عديدة، أولها طبيعة النظام الإيراني الحالي، وأهدافه وأجنداته، وثانيها لأن العرب لم يفتحوا معها صفحة قائمة على التعاون والمشاركة والوقوف معاً ضد الهيمنة الأميركية. وعوضا عن ذلك فتحت إيران خطوطا خلفية مع ميليشيات محلية وحولتها إلى أذرع لها، فيما تعاملت الأنظمة العربية مع إيران كعدو وتهديد (وهذا ظهر حتى في الثقافة الشعبية). وكانت إسرائيل المستفيد الأول من هذه المعادلة المختلة.
ومشكلتنا مع إيران ليست فقط لأن تفكيرها الإمبراطوري التوسعي يقوم على حساب شعوب المنطقة، وضد مصالحهم، وقد أدى إلى تخريب أربع دولة عربية حتى الآن، بل أيضا لأنها نظام استبدادي رجعي يضطهد شعبه أولاً.. لكن إيران (مع كل ملاحظاتنا عليها) هي الآن القوة الإقليمية الأولى، وعلى وشك أن تصبح نووية، والوحيدة التي تعلن عداءها لإسرائيل، وبهذا يُفترض بالدول العربية أن تستفيد منها، بدلا من معاداتها لصالح إسرائيل.
لنعد إلى الضربة الإيرانية الأخيرة؛ وربطها بالموقف من الحرب العدوانية على غزة؛ وسواء أكانت إيران هي التي حرّضت «حماس» وخططت معها لتنسيق هجمات السابع من أكتوبر، أم أنها تفاجأت بها.. في الحالتين، اتخذت إيران موقفا عقلانيا وحكيما (من وجهة نظرها، وبما تقتضيه مصالحها القومية)، واكتفت بالدعم المعنوي واللفظي، وإشغال إسرائيل من خلال أذرعها في لبنان واليمن والعراق بضربات محدودة، وضمن قواعد اشتباك محددة. وهذا باعتقادي من حقها ومن واجبها تجاه شعبها، فهي تدرك أن دخولها حربا مباشرة مع إسرائيل سيؤدي إلى حربٍ إقليمية مدمرة، وستخسر فيها إيران مقدراتها وستفقد الكثير من عناصر قوتها، وربما تؤدي إلى تحويلها إلى دولة فاشلة. وتدرك أن تهديد إسرائيل فعليا سيؤدي إلى إنشاء حلف غربي ودولي معادٍ، سيتمكن من ضربها وضرب كل قوى المقاومة معاً.. لذا في ضربتها الأخيرة وفي ردها المتواصل على إسرائيل أوصلت رسالة أنها لا تريد مواجهة مفتوحة، وتريد توفير فرصة للقوى الدولية للضغط على إسرائيل حتى لا ترد ردا قويا يفجر المنطقة.
الغريب أن حسابات إيران تصبح دقيقة ومدروسة وعقلانية وواقعية عندما يتعلق الأمر بمصالحها العليا، وتصبح هذه الحسابات (نفسها) دليلا على التخاذل والجبن والضعف والاستسلام حين يتعلق الأمر بفلسطين وشعبها ومصالحهم الوطنية! والأغرب أن خطابات إيران الإعلامية (وخطابات أذرعها) عودتنا على التهديد والوعيد، وأنها ستحرق إسرائيل، وستنهيها.. إلخ.
الملاحظة المهمة أيضا، أن أغلب الصواريخ والمسيّرات الإيرانية جرى إسقاطها واعتراضها في العراق والأردن، سواء من قبل جيشيهما، أم من قبل القواعد الأميركية وغيرها الموجودة في كل المنطقة، ما يطرح السؤال حول استقلالية تلك البلدان، وموقفها الحقيقي من إسرائيل، وهل أصبحت حامية فعلية لها، خاصة وقت الشدة.
تلقي إسرائيل ضربة أمام كل العالم ودون قيامها بالرد (بسبب الضغوطات الأميركية) إهانة إضافية لها، وتحجيم لقوتها ومكانتها، وتكريس للواقع الجديد الذي تكشف بعد أكتوبر بأنها مكشوفة وتعتمد كليا على الحماية الخارجية.. ومع ذلك سيستفيد منها نتنياهو؛ الذي يتعرض لضغوطات وانتقادات أميركية لإيقاف الحرب، ولانتقادات دولية كبيرة بعد مقتل العاملين في المطبخ العالمي، وتهديدات من محكمة الجنايات الدولية، إضافة للضغوطات الداخلية من الحكومة، وتظاهرات أهالي الرهائن الإسرائيليين، فقد ينجح نتنياهو بالإفلات من كل تلك الضغوطات، بل وأن يأخذ تفويضا كاملا من مجلس الحرب، وموافقة أميركية وتفهما دوليا لمواصلة العدوان واجتياح رفح. ومن الممكن أن يورط أميركا والغرب ليكونوا معه في حربه ضد ايران، بعد أن قدم إسرائيل للعالم على أنها دولة ضعيفة تتعرض للاعتداء المباشر من دولة نووية قوية.