أقلام وأراء

عبد الغني سلامة: حــول قـــرار المحكمة

عبد الغني سلامة 2024-01-29: حــول قـــرار المحكمة

لم تُصدر محكمة العدل الدولية قراراً واضحاً بوقف إطلاق النار، وهذا مخيّب للآمال، ومع ذلك يمكن النظر بعين الرضا لقرارات المحكمة، بل واعتبارها محاكمة تاريخية.. وذلك للاعتبارات التالية:

رفضت المحكمة رد الدعوى الذي تقدمت به إسرائيل، ووافقت على قبول دعوى جنوب إفريقيا، واعتبرت أن القضية من اختصاص وصلاحيات المحكمة.. وفي هذا إقرار ضمني من قبل المحكمة بمضمون دعوى جنوب إفريقيا، وبالتالي هو قبول مبدئي بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية.. فقد أقرت المحكمة بوجود مداولات واتصالات بين جنوب إفريقيا وإسرائيل (قبل اللجوء للمحكمة)، وأقرت أيضاً بوجود انتهاكات إسرائيلية ضد السكان الفلسطينيين تعتبر ممارسات إبادة جماعية، وأخذت بالاعتبار تصريحات مسؤولين إسرائيليين تحرض على الإبادة الجماعية (تأكيد النية)، وأخذت بالاعتبار تصريحات مسؤولين أمميين (محايدين) تؤكد على الواقع المأساوي والخطير في غزة، وأنه لا مكان آمناً في القطاع، وأن السكان يواجهون خطر المجاعة والأوبئة والموت البطيء.. إلخ. وهذه أهم مرتكزات قبول الدعوى، وبالتالي سيكون للمحكمة فرصة قوية جداً لإثبات كل التهم الموجهة ضد إسرائيل، ما يبشر ويدعو للتفاؤل في مآلات وتوقعات سير المحكمة خلال الفترة القادمة.

وهذه أول مرة في تاريخها، تمثُل إسرائيل أمام أهم محكمة دولية، وبتهم ارتكاب إبادة جماعية، وهي من أخطر جرائم الحرب.. وخطورة ذلك على إسرائيل تتمثل في الآتي:

عندما انضمت إسرائيل لاتفاقية منع الإبادة الجماعية (1949) فعلت ذلك لترسيخ مفهوم الهولوكوست في الثقافة والمخيال العالمي، وللنظر إلى إسرائيل كضحية إبادة جماعية، وأنها تستحق الدعم والتعاطف. وبعد هجوم 7 أكتوبر حاولت كل جهدها أن تجعل من هذا اليوم رمزاً جديداً لإبادة اليهود، وجعله قريناً للهولوكوست، وقريناً بهجمات 11 أيلول، لتكريس صورة إسرائيل “الضحية”، و”المدافعة عن نفسها”.. ومن الواضح أن هذه الدعاية فشلت؛ نظراً لحجم الأكاذيب التي روجتها إسرائيل، ومن ثم جاءت دعوى جنوب إفريقيا، وقبول المحكمة الدولية للدعوى، وقراراتها التي صدرت لتشكل ضربة قوية لإسرائيل ولسرديتها بالكامل، ولتقلب عليها سحرها، وتجعل دعايتها ترتد عليها، لتظهر أنها هي التي ترتكب إبادة جماعية، وأنها معتدية، وأن الفلسطينيين هم الضحية، وبذلك تخسر إسرائيل هذه المعركة، وتفقد أهم مرتكزاتها الدعائية التي طالما حاولت ترويجها للعالم.. كما تخسر صورتها “المزيفة” بأنها دولة ديمقراطية وتحترم القانون.

كنا ننتظر من المحكمة الدولية تصريحاً واضحاً يدعو لوقف الحرب فوراً.. ورغم أن هذا لم يحدث للأسف، وثمة وجهات نظر متباينة بهذا الشأن، مفادها أن قرار وقف إطلاق النار يتم عادة عندما يكون المختصمان دولتين (وهذا يحتاج تأكيد من خبراء القانون)، بيد أن الستة قرارات التي أصدرتها المحكمة تصب في نفس اتجاه إيقاف الحرب، مثل وقف القصف، ووقف استهداف المدنيين، ومنع التحريض المباشر على الإبادة الجماعية والمعاقبة عليه (وهذا يتطلب من إسرائيل محاكمة ومعاقبة كل من حرّض على الحرب)، وتوفير الاحتياجات الإنسانية الملحة في قطاع غزة بشكل فوري، ورفع تقرير خلال شهر إلى المحكمة حول ما تم اتخاذه من إجراءات لتنفيذ قرار المحكمة (وهذا يعني تلقائياً أن على إسرائيل وقف كل ما له علاقة بالإبادة الجماعية من أعمال قتل وتدمير).

لوحظ أن القرارات اتخذت بالإجماع تقريباً، وكان القاضي الإسرائيلي وحده من يصوّت ضدها، مع القاضية الأوغندية التي اصطفت مع إسرائيل بشكل مريب ومستهجن، لدرجة أن حكومة أوغندا استنكرت موقفها، وعبّرت عن تأييدها للفلسطينيين، ومع ذلك ظهرت عزلة إسرائيل، ما يؤكد على استقلالية القضاة الآخرين، ومهنيتهم، وهذه من المرات النادرة في تاريخ المحكمة التي تتخذ فيها قرارات بما يشبه الإجماع، رغم أنها ضد إسرائيل، بل وضد أميركا وضد الدول التي تساند إسرائيل. وربما أن الضغوطات الأميركية رغم شدتها لم تفلح إلا بدفع المحكمة لتجنّب ذكر عبارة وقف إطلاق النار بوضوح.

على أي حال، فإن المحكمة وتفاعل العالم معها سيضع إسرائيل تحت المجهر، وتحت الرقابة والمساءلة، وبالتالي لن تتصرف بنفس الأريحية التي كانت تتصرف بها منذ سبعة عقود، خاصة أنها باتت متهمة بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، وهذا له تبعاته.

سيكون لقرارات المحكمة تبعات ملزمة على أميركا والدول الغربية الداعمة لإسرائيل، مثل إيقاف تزويد إسرائيل بالأسلحة، ولن تستطيع تجاهل قرارات المحكمة خاصة أمام شعوبها.

وسيكون لقرارات المحكمة تبعات إيجابية للدول المؤيدة لفلسطين، وحتى المحايدة، فقد أصبح لديها ما تعتمد عليه قانونياً لاتخاذ إجراءات ضد إسرائيل، مثل المقاطعة وفرض العقوبات، وكذلك ستعطي قوة دفع للمنظمات الشعبية العالمية، مثل حركة BDS، وستعطي لمصر قوة قانونية لفتح معبر رفح، وإدخال المساعدات، ولن تستطيع إسرائيل منعها لأنها ملزمة بتطبيق قرارات المحكمة، وهنا ستكون الكرة في ملعب مصر.

سيكون لقرارات المحكمة تأثير مهم وإيجابي على المدى البعيد، باتجاه مزيد من الإدانات لإسرائيل، ومحاكمة قياداتها خاصة في محكمة الجنايات الدولية، وستكون أميركا محرجة وربما غير قادرة على استخدام الفيتو في حال تصويت مجلس الأمن على قرار يدعو لوقف إطلاق النار.

المطلوب الآن فلسطينياً وعربياً استثمار قرارات المحكمة في تحرك دبلوماسي وسياسي وقانوني لممارسة مزيد من الضغط على اسرائيل لتنفيذ القرار وإيقاف العدوان.. ومطلوب أيضاً متابعة المحكمة بالتدخل المباشر لإسناد جنوب إفريقيا، وصولاً إلى إدانة كاملة لإسرائيل.

ندرك تماماً أهمية المحاكم الدولية، وأهمية المسار القانوني والدبلوماسي، وغيرها من مسارات المقاومة، ولكن لنتذكر أن الشعوب لا تتحرر من خلال المحاكم الدولية فقط، على أهميتها، وإنما بالصمود والثبات والمقاومة الشاملة والوحدة الوطنية، وإنضاج وتغيير الظروف الذاتية والمحيطة.. والمسارات القانونية والسياسية عادة تأخذ وقتاً طويلاً، وتحتاج إلى طول نَفَس.

إن منهجية التفكير القائمة على مبدأ “إما الكل، أو لا شيء”، منهجية عدمية، وتعيق تحقيق أي منجز.

لذا، لا تفقدوا الأمل بالعدالة، وبالقانون الدولي، فما زلنا في بداية الطريق..

ومرة ثانية، وثالثة.. شكراً جنوب إفريقيا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى