أقلام وأراء

عبد الغني سلامة: تفاعلات الشرق والغرب مع حرب الإبادة

عبد الغني سلامة 3-6-2024: تفاعلات الشرق والغرب مع حرب الإبادة

مع تواطؤ الدول الكبرى مع جرائم الاحتلال، وصمت العالم عليها، وشعور أهل غزة بالخذلان، وسط هذا الظلام الدامس ظهرت بقع مضيئة، أحيت فينا الأمل من جديد، تمثلت في جر إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية، ومطالبة مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية باعتقال قادة إسرائيل، واعتراف العديد من الدول الأوروبية بدولة فلسطين، وانتفاضة طلبة الجامعات الأميركية والأوروبية للمطالبة بمعاقبة إسرائيل وإيقاف العدوان، والتظاهرات الشعبية الحاشدة في مختلف مدن العالم تنديدا بالمجازر والإرهاب الإسرائيلي وتضامنا مع شعب فلسطين، وتحول قضية فلسطين إلى أيقونة نضالية ضد قوى الشر والطغيان، حتى غدت رمزا للأخلاق والقيم الإنسانية.. مقابل عزلة إسرائيل ونبذها.

صحيح أننا جميعا في بلدان الشرق سعدنا بهذه المنجزات، وأيدناها بشكل مطلق، لكننا لم نساهم في تحقيقها، فكل ما سبق ذكره حدث في بلدان الغرب (لا بأس من إضافة جنوب إفريقيا ودول أميركا اللاتينية)، بينما في بلدان المشرق كان الأمر مختلفا.

لو قمنا بتحليل نفسي وسوسيولوجي لمجتمعات الشرق، وأقصد كل من هم خارج غزة، لمعرفة كيفية تفاعلهم مع حرب الإبادة، وكيف فهموها، وكيف ينظرون إليها، ومن أي زاوية سنجد الآتي:

تعتقد الأغلبية أن هدف إسرائيل الحقيقي هو القضاء على «حماس»، أما الضحايا المدنيون والتدمير والتهجير والنزوح فهي مجرد أعراض جانبية للحرب.

لا مانع عندهم من استمرار العدوان لأمد مفتوح، ولا بأس من استشهاد 50 ألف غزي، أو حتى مليون، وتدمير القطاع وتسويته بالأرض.. فالنصر لا يتحقق إلا بالتضحية (الجزائر، فيتنام..). وانتصار المقاومة، أو حتى مجرد بقائها أهم وأولى من حياة الشعب!

ويعتقدون أن ما يجري في غزة عبارة عن حرب حقيقية بين قوتين مع الإقرار بالفرق الهائل بينهما؛ إلا أن «المقاومة» تتصدى للعدوان بكفاءة، وتوقع خسائر فادحة في صفوف العدو، وأن هذه المقاومة قادرة على الصمود، بل وعلى تحقيق الانتصار العسكري.

يتابعون فقط صور تدمير الدبابات وصور المقاومين، والمقاطع المنتقاة لمواطنين يعبرون عن صمودهم واستعدادهم للتضحية، أو لأطفال يضحكون ويلهون.. ولا يرون صور الدمار والخراب والمجازر والبؤس وأكوام الردم والنفايات والطوابير وخيام الذل.. بل إن مثل هذه الصور تزعجهم، ويعترضون على نشرها لأنها تضعف الروح المعنوية، ولا تظهر جوانب البطولة. ويعتقدون أن فيها الكثير من المبالغات، ولا تعكس واقع الحال في غزة.

يحبون سماع الروايات التي تناسب تصوراتهم المسبقة، وتتفق مع آرائهم، ويعيشون معها حالة من الخدر اللذيذ، ويضيفون عليها بعض القصص والأوهام والشعارات، وتلك الروايات تعبّر بالضرورة عن أمانيهم ورغباتهم الدفينة حتى لو كانت ملفقة، ويتجنبون سماع الحقيقة حتى لو خرجت من أفواه مليوني إنسان ممن يعيشون أهوال الحرب في غزة، لأن الحقيقة مرة.

يعتقدون بأنهم أوصياء على غزة وأهلها، وأنهم الأحرص عليها، ويمارسون الإرهاب الفكري (دون أن ينتبهوا لذلك) ضد أي وجهة نظر مختلفة عما يعتقدون، ولا ترى ما يرون، بل ويعتبرونها هدما للمعنويات، وطابورا خامسا، وعمالة وخيانة وانهزاما وجبنا. 

يبنون آمالا كبيرة على تصدع إسرائيل وزوالها القريب وهزيمتها التاريخية استنادا إلى ما تروج له «الجزيرة» عن خلافات عميقة بين الإسرائيليين، داخل الحكومة، وفي المجتمع، والجيش. ويفرحون لأي تصريح من مسؤول إسرائيلي أو غربي في هذا السياق، دون فهم حقيقي لطبيعة تلك الخلافات، ومدى تأثيرها على مستقبل إسرائيل.

يعتقدون أن تظاهرات الطلبة والمسيرات الشعبية الحاشدة هي تأييد للمقاومة، وهي بمثابة استفتاء على صحة خيار المقاومة، كما هي حال تظاهرات الأردن مثلا.

في واقع الأمر، هم يستفيدون من لغة الشعارات والخطابات، ويفضلون البقاء في عالم الوهم الذي يعيشونه، والذي تروج له الجزيرة والدويري بأن أهل غزة مستعدون للتضحية ومتقبلون للموت، ومتحملون كل هذا البؤس عن طيب خاطر، لأنهم أبطال خارقون، وأعصابهم فولاذية وقلوبهم من حديد، وأن انهيار إسرائيل قاب قوسين أو أدنى، وأن التظاهرات العالمية ستغير النظام الدولي.. هذه الصورة تريح ضمائرهم، وتعفيهم من مسؤولية المشاركة الحقيقية، وفعل شيء ملموس (غير الهتافات وتداول الصور) وتجعلهم يعيشون لحظات انتظار النصر المؤكد. وبالتالي سيكرهون من يهز قناعاتهم، ويخرجهم من أوهامهم.

بمقارنة سريعة بين ما ذكرته في مقدمة المقال بشأن تفاعل المجتمعات الغربية ونخبها مع العدوان، وبين تفاعل المجتمعات الشرقية، سيكون السؤال اللازم: أيهما أفضل للقضية الفلسطينية؟ أيهما متضامن أكثر مع أهل غزة؟ أيهما أكثر ضررا على إسرائيل؟ أيهما ينهي الحرب؟ أيهما أكثر إنسانية وأخلاقية؟ وأكثر وعيا ونضوجا؟ وأيهما أقرب للحقيقة؟

الحقيقة أنه مع كل يوم جديد من العدوان سيُقتل على الأقل مائة مدني من أهل غزة،  وسيُصاب بجروح متفاوتة وصدمات نفسية مئات آخرون. ومربعات سكنية كاملة سوف تسوى بالأرض، وستفقد مئات العائلات مساكنها، وسيُجبر الآلاف على النزوح مرة أخرى، وسيعيش مليونا إنسان في ظروف التشرد والجوع والخوف، وستفتك بهم الأمراض والأوبئة والحشرات وحر الصيف القائظ، وسيعانون من السماسرة وتجار الحرب والمستغلين والعصابات والسرقات، وسيفقد المجتمع مزيدا من وحدته وترابطه وأخلاقه وقيمه.. كل هذا مقابل تفجير بضع دبابات ومقتل بعض الجنود (على أهمية ذلك)، ولحظة نشوة أثناء سماع خطبة إنشائية وخبر عاجل عن كمين محكم.. ومقابل استمرار تدفق التبرعات لحساب جمعيات نصابة اغتنت وتكسبت على حساب غزة، وعمقت من حجم الكارثة.

والحقيقة أن التركيز على المقاومة، وتضخيم قدراتها وكأنها جيش حقيقي، أطال في أمد الحرب، ومنح الاحتلال مزيدا من الذرائع والفرص لإكمال مخططاته، وفوّت الكثير من فرص إدانة إسرائيل كقوة غاشمة تقتل المدنيين، وكان ذلك من أهم أسباب تعميق الكارثة.

ومع استمرار الحرب تغدو الكوارث عادية أكثر فأكثر، ويعتاد العالم عليها، حتى تجاوز عدد الضحايا 150 ألفا بين شهيد ومصاب ومفقود، وهذا العدد مرجح لزيادات صادمة، لكنها لن تكون صادمة.

هؤلاء المنفصلون عن الواقع، يعيشون في ظل أنظمة استبدادية، ومجتمعات ينخرها الفساد والفقر والبؤس والفوضى والقمع السلطوي، وهم عاجزون عن تغيير واقعهم، أو حتى التعبير عنه، هذا الواقع البائس ورثهم الهزيمة جيلا بعد جيل، واعتقدوا أن حرب غزة ستعيد لهم توازنهم وتعوض خساراتهم وهزائمهم، وأنَّ صور المقاومين تغطي على ضعفهم، وأن أوهام «الجزيرة» وتحريضات وخطابات الإسلام السياسي خير عزاء لهم، وحتى لو كانت على حساب تدمير غزة كلها، ومقتل أهلها جميعا. 

 

مركز الناطور للدراسات والأبحاث  Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى