عبد الغني سلامة: بين حق المقاومة، وممارستها، وإعلان الحرب
عبد الغني سلامة 13-5-2024: بين حق المقاومة، وممارستها، وإعلان الحرب
كل الثورات التي انتصرت كانت بداية تضع لنفسها نظرية ثورية، تعتمد على ما يُعرف بتقدير الموقف، أي مراعاة مدى تلاؤم أساليبها مع إمكانياتها، ومع الواقع المحيط والظروف الذاتية، والمعطيات الإقليمية والدولية، وكانت تتبع قواعد الحرب الشعبية؛ أي حرب الضعيف ضد القوي: اضرب واهرب، ركز على نقاط ضعف العدو، وتجنب نقاط قوته، لا تستفز عدوك لدرجة تجعله يبطش بك، حاول تحييد الجيش حتى لا يستخدم ترسانته العسكرية، واتبع التكتيكات التي تحرمه من أسلحته الفتاكة.. وهذه قواعد أساسية وضعها ومارسها من اخترع حرب العصابات، وانتصر.
المقاومة مجرد وسيلة، وليست هدفاً بحد ذاته، وهي ليست بالسلاح فقط؛ الشعوب المحتلة تتحول أساليب حياتها إلى مقاومة، وحتى تنتصر ينبغي أولاً جلب الدعم والتعاطف العالمي لقضيتها، وثانياً: انتهاج سياسات تؤدي إلى تفكيك جبهة العدو، وتعزيز تناقضاته المجتمعية والسياسية، وثالثاً: اتباع الأساليب التي لا تؤدي إلى هزيمتها هزيمة كاملة، ولا تضعها على حافة نكبة جديدة، بل تدعم وتعزز صمودها.
المقاومة تتطلب مراعاة موازين القوى، وتبني الأساليب الملائمة على ضوء ذلك، وليس الانتظار لحين تعديلها، والبقاء في حالة سكون.
الثورة حالة تحدٍ لكسر المعادلات القائمة، أما تعديل الموازين فيأتي بالتراكم والعمل المستمر والدؤوب الذي يمتلك إمكانيات الاستمرار والتطوير.. وصولاً إلى مرحلة يمكن حينها توجيه ضربات قاضية متتالية، لذلك تحمل المقاومة اسم الحرب الشعبية طويلة الأمد.. وهي مختلفة كلياً عن إعلان الحرب.. إعلان الحرب يعني حرباً نظامية بين جيشين، وبين دولتين.. وله اشتراطاته وظروفه وأساليبه المختلفة عن المقاومة.
في بعض الأحيان تلجأ الثورة إذا ما استشعرت بقوتها، واطمأنت لقدراتها، وأن اللحظة السياسية المناسبة قد حانت، وأن ميليشياتها تمتلك خطة عسكرية محكمة.. تلجأ حينها لشن هجمات عسكرية كبيرة تشبه إعلان الحرب، وهذه تنجح فقط حينما تكون قد راكمت منجزاتها لدرجة الاقتراب من لحظة الحسم، وخلاف ذلك ستمنى بالفشل.
ومن الواضح أن الحالة الفلسطينية لم تصل إلى تلك اللحظة بعد، وأن جميع الظروف الداخلية والخارجية ما زالت ضدها، وبالتالي لا تسمح بخوض مغامرات عسكرية كبيرة.
لو كانت التنظيمات الفلسطينية تتعلم من تجاربها السابقة، لتفادت الكثير من الأخطاء؛ فمثلاً، حين انطلقت حركة فتح رفعت شعار “التوريط الواعي”، أي توريط الجماهير ودفعها للانخراط في الثورة، وتوريط الأنظمة العربية للدخول في الحرب، ولا يتسع المجال هنا لشرح موسّع، بيد أن هذا الشعار تبين أنه مبني على حسابات خاطئة ومتفائلة أكثر من اللازم، فبدلاً من إقحام الأنظمة في حرب مع الاحتلال دخلت في صدامات مسلحة مع الثورة نفسها. وقد تبين بوضوح كافٍ طبيعة هذه الأنظمة وارتباطاتها ودورها الوظيفي.
ما ذكرته لا علاقة له بمشروعية المقاومة ووجوب استمرارها، وبكافة السبل المتاحة.. فالحق شيء، وكيفية ممارسة الحق شيء مختلف.
بمعنى آخر، البديل عن إعلان الحرب هو المقاومة الشعبية الشاملة بكل أدواتها وأساليبها، المسنودة بتشكيلات مسلحة وعمليات فدائية محدودة في الأرض المحتلة عموما.. وهذا الشكل النضالي يتناسب مع إمكانيات الشعب وقدراته، وبالطبع لن يسلم من آلة البطش الإسرائيلية، لكنه يبقي على إيقاع الحياة مستمراً: المدارس، الجامعات، المصانع، الحركة التجارية، التنقل، الرعاية الصحية، الخدمات.. صحيح أنها لن تشبه الحياة في البلدان الأخرى، لكنها على الأقل لا تتوقف، ولا تتوقف كافة أشكال الاحتفال بالحياة، ومع آمال كبيرة بالمستقبل.
مع أن الخطاب الشعبوي يتعامل مع فكرة المقاومة الشعبية باستخفاف وازدراء، وينظر إليها كخيار ترفي، ناعم، ويعتبرها غير مجدية، ولا تؤثر في العدو..إلخ.. وفي واقع الأمر العكس تماماً هو الصحيح، فالذهنية الشعبوية ترفض فكرة المقاومة الشعبية لأنها ببساطة تتطلب مشاركة الجميع، أي انخراط كافة الفئات الاجتماعية في المواجهات وغيرها من أشكال وأعمال المقاومة، وتغيير أساليب حياتهم، بما في ذلك المشاركة في التظاهرات والاعتصامات والمقاطعة وغير ذلك، وحتى يعفي البعض نفسه من مسؤولية المشاركة يهاجم الفكرة ذاتها، ويفضل بدلاً منها فكرة الجلوس ومتابعة أخبار المقاومة العسكرية التي سيقوم بها غيره، فعادة من يتولى العمليات العسكرية والكفاح المسلح فئة محدودة جداً من المجتمع، والبقية متفرجون ومتابعون، أو داعمون فقط.
ويتناسى هؤلاء أن الانتفاضة الشعبية الأولى والتي طالما تغنينا بها، ومدحناها، وتابعناها باهتمام، كانت أبرز وأرقى أشكال المقاومة الشعبية. وقد دامت نحو ست سنوات، لأنها الشكل الأكثر تناسباً مع إمكانيات الشعب في اعتماده على ذاته، ودليل على فاعليتها وجدواها أنها أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة، وأعادت منظمة التحرير إلى قلب الساحة السياسية بعد محاولات طردها وكسرها وإخراجها من دائرة الصراع، وفوق ذلك كسرت احتكار إسرائيل لصورة الضحية في الوجدان العالمي، وبدأت تغير في الذهنية العالمية لقضية فلسطين لينظر لها كقضية حرية وعدالة، كما أن تلك الانتفاضة أثرت في المجتمع الإسرائيلي، بإثارة التناقضات داخله.. بيد أنها انتهت لأسباب عديدة وبحكم طول أمدها، وبسبب التحولات العربية والدولية التي بدأت آنذاك، مثل تفكك المنظومة الاشتراكية وحرب الخليج الأولى وانهيار الاتحاد السوفياتي.
وحتى نوقف مسلسل الانحدار والهزائم، ونستعيد الإمساك بزمام المبادرة يجب أولاً التخلص نهائياً من لغة الشعارات والخطابات والتفكير العاطفي والرغبوي، وهذا يتطلب إعادة فهم ذاتنا من جديد، وإعادة فهم عدونا أيضاً، بمنهج علمي متحرر من العواطف والإنشاء، كما ينبغي التوقف عن خطاب الثأر والانتقام؛ فالمقاومة الفلسطينية ليست ثأرية، لا لجدٍ طَعنه مستوطن، ولا لقائد اغتالته إسرائيل.. المقاومة فعل إنساني وأخلاقي وسياسي لشعب يرفض الاحتلال، ويتطلع للحرية، وعيناه على المستقبل.
ومع مراكمة العمل الفدائي وتطوير وتوسعة المقاومة الشعبية بموازاة كافة أشكال النضال الأخرى الدبلوماسية والسياسية والقانونية والإعلامية، وبثبات الشعب وصموده، يمكن تحقيق المنجزات السياسية، والتي من شأنها شق طريق الاستقلال والحرية وإحراز الانتصار.