عبد الغني سلامة: الشرق الأوسط الجديد
نأتي إلى الملف الأكثر سخونة تاريخياً: ملف الشرق الأوسط والصراع الفلسطيني الإسرائيلي. حيث سعى نتنياهو إلى جر أميركا إلى حرب إقليمية ينهي من خلالها تهديدات إيران و»حزب الله»، ومن الواضح أن أميركا تجنبت الدخول في حرب كهذه، نظرا لخطورتها، ولأكلافها الباهظة من ناحية، ومن ناحية أخرى لم يغب عن الذهن الأميركي تداعيات أي حرب إقليمية على الوضع الدولي، بحيث تستفيد منها روسيا بتحقيق نصر حاسم على أوكرانيا، وبالتالي سيكون بمقدورها المساهمة بفاعلية في إعادة ترتيب النظام الدولي وبشروط روسية، وأيضا تداعياتها لصالح الصين، من حيث الاستفادة في حربها التجارية وتقوية مكانتها، وفي إعادة تايوان للبر الصيني، وطبعا يضاف إلى ما سبق ما ستتعرض له إسرائيل والمصالح الأميركية في المنطقة من ضربات موجعة من قبل إيران وحلفائها.
لذا، يرى ترامب أن الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وإنهاء الحروب الدائرة فيها يخدمان المصالح الأميركية بعيدة المدى، ويفسحان المجال أمامه للتفرّغ لمواجهة الصين. ومن أجل استعادة هذا الاستقرار، سيحاول ترامب حل الصراع العربي الإسرائيلي وليس إدارته كما هو معمول به حاليا، وباعتقاده أنه قادر على عقد صفقة كبرى للتسوية تنهي الصراع بشكل دائم.
وبما أن مشروع السلام الإبراهيمي قد توقف (على خلفية الحرب) واستئنافه يتطلب تطبيع السعودية، ولأن الموقف السعودي الرسمي يربط بين هذا التطبيع مع ضرورة الدخول في مسار مضمون لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وإقامة دولة فلسطينية، يُضاف إلى ما سبق قيام تحالف دولي لدعم حل الدولتين، برعاية الرياض يضم تسعين دولة، وإذا نجح هذا التحالف في إبراز جديته سيتعين على ترامب إعادة النظر في مبادرتيه السابقتين؛ «السلام الإبراهيمي» و«صفقة القرن»، وهذا قد يقتضي دمج المبادرتين في مبادرة جديدة، تكون مترابطة مع بعضها، وواضحة في رؤيتها التنفيذية. (علي الجرباوي، «الأيام»).
والتحدي أمام مبادرة كهذه سيكون في صعوبة الربط بين تحقيق مصالح إسرائيل وشروطها التعجيزية، ومطلب السعودية، والاستجابة للتطلعات الفلسطينية، وتحجيم الدور الإيراني المعطل والمعرقل لهذا المشروع. وقد يتطلب هذا الاستعداد لاعتراف أميركي بالدولة الفلسطينية.
ومن أجل التغلب على الشروط الإسرائيلية الرافضة للدولة الفلسطينية سيطرح ترامب دولة مقطعة الأجزاء في الضفة الغربية، يضاف إليها قطاع غزة الذي قد تبقى أجزاء منه تحت الاحتلال المباشر، لكنه سيصبح مركز الدولة الجديدة، وتتركز عليه المساعدات لإعادة إعماره، أي أن المطروح دولة فلسطينية فيها بعض رموز السيادة، لكنها عمليا بلا سيادة، وبالطبع بعد اتخاذ كافة التدابير الأمنية حتى لا تشكّل هذه الدولة أي خطر مستقبلي على إسرائيل.
ومقابل هذا الثمن الذي سيقدمه ترامب للفلسطينيين وللسعودية، سيعترف ترامب بضم بعض المستوطنات وجزء كبير من منطقة (C) لإسرائيل، وبذلك سيرضي اليمين الإسرائيلي وكافة الأطياف السياسية المختلفة.
وهناك تخوف أن يلجأ ترامب إلى هذه الخطوة بالاعتراف بالضم، دون تقديم شيء للفلسطينيين، بدلالة الأسماء المقترحة لتولي أهم المناصب في الإدارة الأميركية الجديدة، وقد تبين أنهم من غلاة المتطرفين والمتصهينين.
ويأمل ترامب بهذه الخطوة إنهاء الحرب واستقرار المنطقة، وبالتالي تحجيم دور إيران التي كانت تجد مدخلها إلى المنطقة من خلال الصراع، إذ ستفقد مبرراتها في دعم المقاومة ومقولة وحدة الساحات، وستواجه تحالفاً عريضاً من دول المنطقة تمنع استمرار تمددها.
في الخلاصة، فاز ترامب وتبوأ المنصب الأهم في العالم، حاملا معه مشاريعه وتطلعاته، والتي بلا شك ستحدث تغييرات عميقة في المنطقة والعالم، وقد تطال بنية النظام الدولي برمته.. ليس شرطا أن تأتي التغيرات في صالح أميركا، ووفقا لأهوائها.. لكن جميع الأطراف في العالم إما أنها ستسعى للاستفادة من هذه التغيرات، وتنخرط في هذا النظام، أو أنها ستحاول مجابهتها، أو على الأقل النجاة بنفسها من تداعياتها السلبية.
وفي الوقت الذي يتحول فيه النظام الدولي نحو تعددية الأقطاب، وفيما تسعى الدول القوية والطامحة لبناء تحالفات جديدة، فإن العرب ما زالوا بعيدين عن أن يكونوا مركزا جيوسياسيا متكاملا، أو ثقلا اقتصاديا ذا قيمة، فالواقع العربي في أضعف حالاته، والأنظمة الرسمية خاضعة بالكامل للهيمنة الأميركية، ولم يتبق لهم سوى الشعوب العربية (المغيبة، والمقيدة والمقموعة).
وخطورة المرحلة أن إسرائيل لم تعد مبالية بعملية السلام، ولم تعد معنية بسمعتها «الأخلاقية» وصورتها «الديمقراطية»، وليست مجبرة على التنازل، وترى أنه بوسعها التكيف مع المرحلة الجديدة، بل وتجييرها لصالحها، لا سيما بعد انحسار المقاومة بكل أشكالها، وبعد الضربات القاتلة التي تلقاها «حزب الله»، ومع غياب تهديدات الضغط الدولي، وحالة الضعف والانهيار العربي.
أما نحن، الفلسطينيين، فمنقسمون، وهذا أسوأ ما في الأمر، والمقاومة العسكرية في غزة (والضفة) تعرضت لضربات قاتلة، ويمكن القول بكل حزن، إنها لم تكسب الجولة عسكريا.. ولم يتبقَ لنا سوى إرادتنا الوطنية، وصمودنا فوق أرضنا، ومقاومتنا الشعبية، وأن نتوحد، وننهض من جديد.. وللخروج بأقل الخسائر قد لا تجد القيادة خيارات كثيرة، والتحدي الأكبر هو المزاوجة بين عدم الرضوخ والاستسلام، وإبقاء الحلم الفلسطيني متقدا ومشتعلا.. ولكن بواقعية وحكمة وشجاعة. وبقناعة مطلقة بأن المبادرات الأميركية والتهديدات الإسرائيلية ليست قدراً نافذاً.. وبوسع شعبنا إسقاطها كما فعل على مدى العقود الماضية.