أقلام وأراء

عبد الغني سلامة: الرهان على الشارع العربي والإسلامي

عبد الغني سلامة 2023-11-01: الرهان على الشارع العربي والإسلامي

منذ اليوم الأول للحرب العدوانية على أهلنا في غزة، خرجت مسيرات جماهيرية حاشدة في أغلب المدن العربية والإسلامية، وعمّت العديد من المدن الأوروبية، ووصلت قلب أميركا، غضب شعبي عارم من إندونيسيا شرقاً حتى الولايات المتحدة غرباً، إضافة إلى تغطية إعلامية في كل فضائيات العالم، وانتشار آلاف الصور الفظيعة، والفيديوهات المرعبة التي تجسّد مأساة الفلسطينيين، وتكشف مدى قسوة ووحشية الاحتلال، وتصوّر القصف العشوائي وقتل المدنيين، وهدم البيوت والمستشفيات والكنائس، وحصار القطاع بالتجويع والتعطيش وقطع الكهرباء والإنترنت.

وقد شارك في هذه التغطية الإعلامية العديد من المثقفين والسياسيين والبرلمانيين والمشاهير والمؤثرين.. وأكثريتهم أجانب، كما ظهر زعماء وقادة ورياضيون وفنانون وهم يرتدون الكوفية الفلسطينية ويرفعون أعلام فلسطين، إضافة إلى حملة دبلوماسية فلسطينية ناجحة ومؤثرة انتشرت على شاشات التلفزة، ومنصات التواصل الاجتماعي في الشرق والغرب.

كل هذا جيد وممتاز ومهم، وقد حقق هذا الحراك الشعبي والإعلامي نجاحات مهمة لإظهار الحقيقة، أي حقيقة الصراع العربي الصهيوني، وكشف الوجه الحقيقي البشع للاحتلال، وفضح ازدواجية المعايير للدول الغربية، ودحض الرواية الإسرائيلية التي تساوق معها الغرب، وكشف زيفها وكذبها، وقلبها لصالح الرواية الفلسطينية.

كل هذا مهم وضروري لأنه قطع الطريق على المسعى الإسرائيلي لشيطنة الكفاح الفلسطيني، ودعشنة المقاومة، ومهم لأنه أعاد القضية الفلسطينية إلى الواجهة، وبيَّن جذر المشكلة، وأساس الصراع، وأكّد على المظلومية الفلسطينية، وعلى شرعية النضال الوطني، وفنّد المزاعم الإسرائيلية التي حاولت تصوير إسرائيل كممثلة للخير وقيم التحضر وحارسة للديمقراطية ونموذجاً للتطور.. لتتضح الصورة أمام العالم بأنها مجرد قاعدة متقدمة للإمبريالية العالمية، ومجرد جيش متعطش للدماء، ويرتكب أفظع الجرائم بحق الإنسانية.

لكن علينا أن نتذكر أن هذه النجاحات إنما هي تتويج لمسار طويل من الكفاح الوطني الفلسطيني بمشاركة أحرار وشرفاء العالم، وقد سبق للأمم المتحدة تصنيف الصهيونية بأنها حركة عنصرية (1975). وأنَّ هذه معركة قائمة ومستمرة وتحتاج سنوات طويلة وجهوداً مضنية حتى تأتي بثمارها المنشودة، شريطة أن تتواصل وأن تُدار بذكاء وصبر. وهذه التغييرات ستكون فقط في دول الغرب، لأن تركيبتها الاجتماعية والحزبية ونظمها السياسية تسمح بحدوث التغييرات تحت ضغط المطالب الشعبية وتوجهات الأحزاب والرأي العام (القاعدة الانتخابية). أما الدول العربية، فإن الرهان على حدوث التغيير فيها ليس واقعياً، لأسباب عديدة، فالشعوب العربية مقموعة ومغلوبة على أمرها، وهي عاجزة عن مواجهة نظمها، وغير قادرة على إحداث تغيير في إطارها الوطني، وقد حاولت بكل صدق وجديّة إحداث التغيير إبان ثورات الربيع العربي (2011)، لكن الثورات المضادة والدولة العميقة والقوى الخارجية نجحت بهجماتها المرتدة وأفرغت الثورات الشعبية من مضامينها وجعلتها عبئاً عليها، وصارت هذه الجماهير بحاجة لسنوات عديدة وربما لعقود حتى تلتقط اللحظة التاريخية التي تمكنها من الثورة من جديد.

ومع أهمية كل ما سبق، علينا أن ندرك أن كل التظاهرات المليونية والحملات الإعلامية لن تردع إسرائيل، ولن توقف الحرب، ولن تؤثر بشكل حاسم على مجرياتها، بل إنها عجزت حتى عن إدخال مساعدات إنسانية، حتى بوجود غوتيريس شخصياً.. هذا الحراك الشعبي مهم ويجب أن يستمر، لكن نتائجه وتأثيراته ستكون على المدى البعيد، وليس الآني.. لذا من الخطأ الرهان عليها كأداة حاسمة في الحرب.. ليس في هذه الحرب فقط، بل هو كذلك في كافة الحروب السابقة.. فقد حصل مثل هذا التعاطف الشعبي العالمي في حروب غزة السابقة، وفي أثناء اجتياح الضفة 2002، وأثناء الانتفاضة الأولى، وأثناء حرب بيروت.. وأيضاً قبيل حربَي الخليج الأولى والثانية، حين عمّت مدن العالم تظاهرات ضخمة أكبر من تظاهرات اليوم.. وكان أكبرها في المدن الأميركية.. ومع ذلك لم تمنع الحرب، وكان رد فعل القيادات الأميركية والأوروبية التي تورطت في الحرب أن هذه التظاهرات «دليل على ديمقراطيتنا وسماحنا بحرية التعبير، لكننا في نهاية المطاف نفعل ما نراه صواباً!».

وأيضاً علينا أن نتذكر أن حملة الكذب والتضليل التي شنتها إسرائيل في أول أيام الحرب، من خلال مزاعمها المفضوحة مدعومة بجيش من الذباب الإلكتروني أحدثت صدمة لدى العالم، وقد تساوق معها الرؤساء والإعلام والرأي العام.. صحيح أن الرد الفلسطيني كان سريعاً وذكياً، وقلَب الصورة، وأوضح الحقيقة، وبالتأكيد ساعدت في ذلك صور القصف الهمجي الإسرائيلي، لكن جزءاً مهماً من الرأي العام ما زال مصدقاً للمزاعم الصهيونية ومتعاطفاً مع إسرائيل، ويعتقد أنها «ضحية»، علماً أن قسماً كبيراً من هؤلاء لا يعرف شيئاً عن القضية الفلسطينية، وربما لأول مرة يسمع بكلمة فلسطين.. ومن المؤكد أن إسرائيل ستواصل حملاتها على هؤلاء وغيرهم.. لذلك المعركة مستمرة ومن المبكر القول إننا انتصرنا.

وفي سياق الحراك الشعبي العربي والإسلامي، لا بد من التأكيد على صدق نوايا الجماهير، وجديّتها وغضبها الحقيقي، وأنّ فلسطين تسكن قلب كل عربي ومسلم، وأنهم مستعدون للتضحية.. أما شعار «افتحوا الحدود» الذي يردده البعض، فهو باعتقادي أكثر شعار سذاجة وكذباً؛ فأولاً من الذي سيفتح الحدود أمام الحشود الشعبية؟ وإذا قامت الدول العربية بذلك (وهذا مُستبعد تماماً) فهل ستسمح إسرائيل؟ وماذا ستفعل الحشود بعد ذلك؟ وثانياً: لماذا وكيف تمكنت الجماعات الجهادية من اقتحام كافة الحدود في أفغانستان والشيشان والعراق وسورية والبوسنة وبلدان شمال إفريقيا، دخلوا بعشرات الآلاف، ولم يحاولوا حتى دخول الحدود الفلسطينية؟! ولماذا حين يتعلق الأمر بفلسطين ينتظرون الإذن والدخول بشكل رسمي وبجوازات سفرهم؟!

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى