أقلام وأراء

عبد الغني سلامة: التظاهرات قديماً وحديثاً

عبد الغني سلامة 11-9-2024: التظاهرات قديماً وحديثاً

عرفت المجتمعات الإنسانية التظاهرات منذ أقدم الأزمنة؛ وإذا كان خروج الناس للشارع لتأدية طقوس دينية، أو لاستقبال الحاكم فمن الصعب معرفة أول تظاهرة في التاريخ، لكن أول تظاهرة احتجاج كانت في مصر القديمة، تمثلت في الإضراب عن العمل، وقد جرت غرب الأقصر قبل 3500 عام، وحينها أعلن كبير الشرطة عن تضامنه مع مطالب العمّال، ورفضه تفريق التظاهرة بالقوة.

ويمكن اعتبار ثورة العبيد ضد الحكم الروماني بقيادة سبارتاكوس من أولى وأهم التظاهرات في التاريخ القديم، والتي جوبهت بمنتهى العنف والقسوة.

وفي التاريخ الإسلامي، ينظر بعض المؤرخين لخروج أهل الأمصار ضد الخليفة عثمان بن عفان، وثورة الزنج في زمن الخلافة العباسية أشهر حركات الاحتجاج المدنية، والتي سرعان ما تحولت إلى ثورات عنيفة.

ويرى البعض أن التظاهرات الفرنسية التي أسقطت سجن الباستيل وخلعت لويس السادس عشر هي الأولى في التاريخ الحديث. ولكن وفي مصر أيضاً، خرجت أول تظاهرة نسائية العام 1798 واحتجت على قرار نابليون بهدم المقابر المجاورة للبيوت، وقد توجهت النساء إلى مقر إقامة نابليون في الأزبكية وحصلن على قرار بوقف عمليات الهدم.

في تاريخنا المعاصر اشتهرت العديد من التظاهرات، منها مثلاً تظاهرة شاربيفيل في جنوب إفريقيا، سنة 1960 والتي انتهت بمقتل 69 متظاهراً، بالإضافة إلى انتفاضة سويتو 1976، ومثّلتا أهم المفاصل في نضال السود ضد حكومة الأبارتهايد.

وفي أميركا استمرت تظاهرات حركة الحقوق المدنية ضد سياسة التمييز العنصري منذ أواسط الخمسينيات حتى نهاية الستينيات، وانتهت بإقرار الحقوق المدنية وتحريم العنصرية.

وفي الهند قاد غاندي سنة 1930 “مسيرة الملح”، والتي بدأها برفقة 80 شخصاً واستمرت 24 يوماً قاطعة نحو 400 كم، وانتهت بمشاركة ملايين الهنود على مستوى البلاد في إعلان للعصيان المدني ضد الاحتلال البريطاني.

كما شهدت البلاد العربية العديد من التظاهرات ضد القوى الاستعمارية، وبعد الاستقلال، وضد حكوماتها.. ولعل أهمها التظاهرات الحاشدة فيما سمّي “الربيع العربي”، والتي أفضت لإسقاط رؤساء وتغيير أنظمة، بيد أن بعض البلدان حظرت التظاهرات الشعبية نهائياً، فمثلاً في تلك الفترة (2011) أصدرت هيئة كبار العلماء في السعودية بياناً نهت فيه بشكل قاطع عن القيام باحتجاجات، واعتبرت أن التظاهرات “محرمة،”، و”ثقافة دخيلة”.

في فلسطين، والتي قد تكون أكثر بلد في العالم شهد تظاهرات، فقد خبر الفلسطينيون التظاهرات الاحتجاجية منذ زمن بعيد، وكانت أولى أشكال المقاومة الشعبية ضد الانتداب البريطاني واحتجاجاً على المشروع الصهيوني. وكانت النخب المثقفة والجمعيات المسيحية والإسلامية هي التي تدعو للتظاهرات وتقودها، بالإضافة للجمعيات النسوية. وكانت أول تظاهرة نسائية خرجت في العفولة سنة 1893 احتجاجاً على إنشاء أول مستوطنة يهودية على أرضها، كما شاركت النساء في الهبّة الجماهيريّة التي اجتاحت مدن وقرى فلسطين استنكاراً لوعد بلفور وضد الاستيطان الصهيوني، كما شاركن في الوفد الذي قابل المندوب الساميّ مطالباً بإلغاء وعد بلفور. وشاركن في تظاهرات ضدّ زيارة تشرشل للقدس في 1928. وفي العام 1929 نظم المؤتمر النسائي مسيرة مكونة من 80 سيّارة طافت على جميع القنصليّات الأوروبيّة، للتعبير عن المطالب الوطنية. أما أكبر تظاهرة فشارك فيها نحو أربعين ألف مواطن جابت شوارع القدس في شباط 1920. لكن انتفاضة 1987 هي العلامة الأبرز في تاريخ الكفاح الفلسطيني.

لا يهدف المقال ولا يتسع للغوص عميقاً في التاريخ، أو دراسة وتحليل “التظاهرات” سوسيولوجياً وسياسياً، سنكتفي بإيراد بعض الملاحظات على ظاهرة “التظاهرات”، محلياً وعالمياً.

في بلدان الغرب “الديمقراطية”، تتسم التظاهرات عموماً بأنها سلمية، ومنظمة، وبأعداد حاشدة (مع خروقات كثيرة، وتحولها إلى صدامات عنيفة أحياناً)، لكن الأهم أن لها مطالب محددة، وترفع شعارات وهتافات تتناسب تماماً مع أهداف التظاهرة. وإن كان أغلبها ذا طابع سياسي، أو مطالبات عمالية، إلا أنها تخرج من أجل قضايا أخرى مثل البيئة، المناخ، حقوق الأقليات، الصحة، المثليين، التدخين، ومناصرة المظلومين في دول بعيدة. 

في بلدان “العالم الثالث” لا تخرج التظاهرات إلا من أجل مطالب سياسية، أو احتجاجاً على السلطات، أو احتجاجات دينية، أو لاستعراض قوة وجماهيرية حزب معين، وغالباً يتم قمعها بالقوة المفرطة. 

وما يعنينا هنا تسليط الضوء على التظاهرات الفلسطينية، وتشخيص سماتها، والإجابة عن السؤال الأهم: هل تعبّر التظاهرات عن رأي الشعب بشكل دقيق؟

نلاحظ أن أغلبية التظاهرات موجهة ضد الاحتلال، حتى التظاهرات المطلبية وذات الطابع الاجتماعي نلحظ في الخلفية وجود للاحتلال. 

في جميع التظاهرات ثمة مشاركة نسوية لافتة، ودون تسجيل أي حالات تحرش، أو استنكار لمشاركة النساء.

في بعض الأحداث الساخنة، يُتوقع خروج أعداد حاشدة، فيتفاجأ الصحافيون بأن عددهم أكبر من عدد المتظاهرين، وفي أحيان أخرى وخلافاً للتوقعات تخرج تظاهرات بأعداد ضخمة جداً، وهذه الظاهرة تحتاج دراسة معمقة. 

التظاهرات الضخمة والناجحة تحتاج جهة منظمة (غالباً “فتح”، أو “حماس”)، بحيث توفر وسائل النقل، والدعاية، والتحشيد، واليافطات والأعلام. ومع ذلك شهدنا تظاهرات شعبية ضخمة خرجت بشكل تلقائي وعفوي.

في المناسبات الوطنية تسمح الوزارات لموظفيها بالخروج والمشاركة في المسيرات، ولكن أغلبهم يذهبون لبيوتهم، ولقضاء مصالحهم الخاصة.. خلافاً لما عهدناه في دول أخرى، حيث الخروج والمشاركة إجبارية. 

في التظاهرات الفلسطينية ازدحام في الشعارات والرايات والهتافات، والتي غالباً ما تكون متناقضة ومتعارضة، ومن يملك الميكروفون يفرض توجهاته على المسيرة. وأحياناً من هم في المقدمة يهتفون بشعارات متضاربة مع من هم في الخلف، وهكذا.

في التظاهرة، ومع الأعداد الغفيرة للناس، وصخب الهتافات وحالة الشحن العاطفي، تختفي شخصية الفرد داخل الجماعة، ويتصرف ويتحدث على نحو غير متوقع، ولا يتناسب مع شخصيته الأصلية.

ثمة شعارات وهتافات أصبحت مثل المتلازمة، رغم أنها غير مناسبة، ولا علاقة لها بالحدث، المهم القافية بصرف النظر عن معناها، والهتافون يصدحون بها ويرددها من بعدهم من هم في الدائرة المحيطة فقط، ومعظم المتظاهرين لا يوافقون على تلك الهتافات، فيظلون صامتين. 

مع أنها تظاهرات وطنية، لكن علم فلسطين هو الغائب الأكبر، وقد حلّت محله رايات الأحزاب بألوانها المختلفة. 

في الحرب العدوانية على غزة جابت آلاف التظاهرات مدن العالم، جميعها كانت تنديداً بالعدوان والمذابح الإسرائيلية، وتأييداً للشعب الفلسطيني، مع رفع العلم الفلسطيني فقط.. ما عدا الأردن والضفة الغربية، التظاهرات تأييداً للمقاومة، وترفع صور “أبو عبيدة”، ورايات “حماس” و”الإخوان المسلمين”، في حين أن أعلام فلسطين بالكاد تُرى.

أما قمع التظاهرات، أو استغلالها للتخريب والفوضى، أو توظيفها حزبياً، فيحتاج إلى مقال منفصل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى