أقلام وأراء

عبد الحليم قنديل يكتب – فلسطين 2021

عبد الحليم قنديل *- 2/1/2021

مع فاتحة كل عام، نتذكر الحدث الأشهر في حياة الفلسطينيين الوطنية المعاصرة، فقبل 56 سنة بالتمام، صدر بيان «العاصفة» الأول، وكان افتتاحا دراميا مسلحا لمرحلة كاملة من إعادة بعث الهوية الفلسطينية المستقلة، وتوالي تحولات قيادة حركة «فتح» وزعيمها التاريخي ياسر عرفات، ورمزية «الكوفية» التي لا تزال تظلل قبر الشهيد عرفات في رام الله.

وكما لم يكن عرفات معنى واحدا في حياته، فكذلك قضيته، التي مرّت بتحولات عسيرة، وانتقلت من أولوية الكفاح المسلح إلى ما يشبه الموات السياسي، فقد تخلى القريب والبعيد عن القضية الفلسطينية، وضعف انتظام الحركة الوطنية الفلسطينية، خصوصا في الصف الأمامي الناطق باسمها، فلم نعد نسمع، ومن سنوات طويلة عجاف، بعد رحيل عرفات مغتالا بالسم الإسرائيلي، سوى أنباء تثقل القلب، من نوع اتفاقات تقوم لتنهد عن مصالحات «فتح» و»حماس» مع انقسام مزمن يتأصل بين غزة ورام الله، وتحالفات إقليمية زبائنية متقلبة، لا تريد خيرا للقضية الفلسطينية ولا للفلسطينيين، بقدر ما تستثمر في محنة العذاب الفلسطيني، وتتسابق في الجوهر على محبة ومودة كيان الاحتلال الإسرائيلي، وتكاد تفقأ العين باتفاقات تطبيع ملوث، تتقاطر عرباتها من الخليج إلى المحيط، ولا تكاد تلقي بالا للحق الفلسطيني، الذي تركوه يتيما.

وعند قنطرة العبور من عام إلى ما يليه، لا تكاد تلحظ تغيرا ذا بال في الأفق، وكأن الحوادث كلها تراوح مكانها، وكأننا في 2021، سنعيش ما كان في 2020، فالوجوه هي ذاتها، كما الصور والانقسامات والوعود، وانتظار بركة القادم الجديد إلى البيت الأبيض، وكأن الحدأة ترمي الكتاكيت، وكأن الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن، قد يقدم جديدا للفلسطينيين المنتظرين على بابه، أو أن يعطف على الحق الفلسطيني، مقابل ظلم زمرة دونالد ترامب، وهو خداع بصر سرابي، تكررت أماراته طوال نحو ثلاثة عقود مضت على اتفاقات أوسلو وأخواتها، ومن دون أن يتعلم من بيدهم الأمر، لا عربيا ولا فلسطينيا، فالذين طبعوا علاقاتهم بلا مقابل، حالهم كحال السابقين إلى التطبيع بمقابل، كلهم يدعون أنهم يريدون خدمة الحق الفلسطيني، ولا يغيب عن العين ما يجري مكررا، في صورة لقاءات فلسطينية رسمية مع الحكومات في عواصم عربية محيطة، وبدعوى التجهيز لمفاوضات فلسطينية إسرائيلية مباشرة جديدة، يتصورون إمكانية عقدها برعاية بايدن هذه المرة، وفي ظل حماس ظاهر لإعادة المحاولة عند القيادة الفلسطينية الرسمية، التي خفت صوتها المعارض لتطبيع دول عربية مضافة، ومالت إلى إنهاء تمردها الموقوت على علاقاتها مع إسرائيل، وعادت إلى اتفاقات التنسيق الأمني وغيرها، وإلى طي صفحة إحياء نداء المقاومة الشعبية، والقيادة الوطنية الموحدة، والعودةإلى التركيز على ما يسمى التحرك الدبلوماسي وحده، وبث الحياة في روابط العلاقات المعلنة والمخفية مع واشنطن بعد ترامب، بينما لا أحد عاقل، يتصور تغييرا له مغزى جوهري في مواقف الإدارة الأمريكية، فولاء ترامب لمصلحة الكيان الإسرائيلي، كان مقاولاتيا وصفقاتيا بامتياز، بينما ولاء بايدن لمصلحة العدو مختلف، فهو ولاء أيديولوجي تام، والرجل يفخر بكونه صهيونيا بالسليقة، وبسوابق السيرة، ولن ينقلب على شيء مما فعله ترامب هنا، لا في الاعتراف رسميا بالقدس كلها كعاصمة أبدية للكيان الإسرائيلي، ولا في ضم الجولان، ولا في اتفاقات «أبراهام» التطبيعية، ولا في ضم مستوطنات الضفة الغربية لإسرائيل، ولا في الدعم الكلي المطلق لأولويات قادة الكيان الصهيوني، وقد اختلف باراك أوباما من قبل مع صلف بنيامين نتنياهو، ولم يكن بينهما أدنى توافق في الكيمياء الشخصية، لكن أوباما لم يترك البيت الأبيض لخلفه ترامب، إلا بعد التوقيع على صفقات أسلحة متطورة شبه مجانية لإسرائيل بقيمة 38 مليار دولار، وكان بايدن نائبا لأوباما، وكان أكثر منه مزايدة في خدمة إسرائيل، وقد يكف بايدن عن دعم ما سمى «خطة ترامب» نصا لا فصا، وقد يعود إلى تكرار اسطوانة السعي المشروخ إلى «حل الدولتين» والإفراج عن معونات مالية محدودة للفلسطينيين، أو لوكالة «الأونروا» لكنه لن يقدم على جديد لافت يخص الحق الفلسطيني، مع معاودة الدوران في حلقة المفاوضات المفرغة، ومنح المزيد من الوقت اللازم لإسرائيل، لالتهام ما تبقى من الضفة الغربية بعد غلق ملف القدس المحتلة.

“المقاومة المسلحة والشعبية هي الطريق الوحيد لتعديل وقلب الموازين، واستعادة الانتباه العربي والعالمي إلى الحق الفلسطيني السليب “.

وقد يأمل أنصار المفاوضات العبثية من الفلسطينيين، أن يجدوا ما قد يرونه شريك سلام إسرائيليا ألطف من نتنياهو، وهو ما لا تبدو طرقه ممهدة على خرائط العام 2021، ففي نهاية مارس المقبل، تجري الانتخابات الإسرائيلية الرابعة في عامين، وفي ثلاث جولات سبقت، ظل نتنياهو على كرسي رئاسة الوزراء، ومن دون أن تتأثر قوته باتهامات وقضايا الفساد المتلاحقة، وهو ما قد يتكرر للمرة الرابعة، ففي الجولة الثالثة، كان غريمه الجنرال بينى غانتس وتحالف «أزرق أبيض» ونجح نتنياهو في احتوائه وخداعه، بينما في الجولة الرابعة المقبلة، يظهر غريم آخر هو جدعون ساعر وحزبه المسمى «أمل جديد» وساعر كان منافسا محبطا لنتنياهو في قيادة «الليكود» وانشق مؤخرا لينشئ حزبه، الذي تعطيه استطلاعات الرأي حضورا ملحوظا، قد يجعله الحزب الإسرائيلي الثاني وزنا بعد جماعة «الليكود» لكن ساعر الأكثر شبابا، هو أيضا الأشد يمينية بامتياز، فإذا كان نتنياهو يريد التهام أغلب مساحة الضفة الغربية، مع ترك جيوب وكانتونات معزولة للفلسطينيين، فإن ساعر أكثر وضوحا وقطعا، ويريد التهام الضفة بكاملها، وهو الأكثر قدرة على مخاطبة غرائز المزاج اليميني السائد في إسرائيل، الذي قد تكسب أحزابه نحو ثلثي أعضاء «الكنيست» المقبل، والمحصلة ظاهرة، فحتى بافتراض إمكانية التخلص من نتنياهو، فما من بديل مرئي ألطف للقيادة الفلسطينية الرسمية، وهو ما يعني حكما، أن المفاوضات حال استئنافها، لن تكون سوى مضغ للوقت، وعودة للدوران البائس في الحلقة المفرغة ذاتها، وفي طاحونة المفاوضات من أجل المفاوضات

وبالجملة، لا يبدو عام 2021 سعيدا ولا واعدا للقضية الفلسطينية، خصوصا مع استمرار الانقسام بين رام الله وغزة، ومع تجدد غواية المفاوضات ومتاهاتها، ومع ازدحام أجندة المنطقة، بقضايا ومآس أخرى في العراق وسوريا واليمن وليبيا وغيرها، ومع بروز أولوية ومساعي العودة لاتفاق جديد بين واشنطن وطهران، وهو ما لن يكون سهلا بحال، فلن يتمكن بايدن غالبا من تلبية طلب إيران بالعودة السريعة إلى نص «الاتفاق النووي» الذي انسحب منه ترامب، وربما يصر على فرض شروط إضافية، بينها إدماج نشاط طهران الصاروخي وتمددها الإقليمي في أى اتفاق لاحق، وهو ما قد تعتبره إيران حكما بالإعدام السياسي لمشروعها ونفوذها، وبالذات مع احتمال صعود المتشددين لرئاسة إيران، في انتخابات أواسط العام الجديد، وبديهي أن بايدن لن يعطي ظهره لإسرائيل هذه المرة، وربما يسعى لإشراكها صراحة أو ضمنا في أي ترتيبات مزمعة مع إيران، خصوصا مع تقدم إسرائيل استراتيجيا إلى جوار إيران الخليجي، باتفاقات التحالف مع البحرين والإمارات، وكلها ظروف متوقعة، تحجب فرصة التركيز السياسي على قضية الحق الفلسطيني، وعلى أي مسعى مزعوم لتسوية فلسطينية إسرائيلية، اللهم إلا إذا جرى جديد صاخب مؤثر في الجبهة الفلسطينية، يقلب معادلات الركود كليا أو جزئيا، إما بأقدار مفاجئة، أو بأقدار يملكها الشعب الفلسطيني وحده، وهو كتلة فياضة بالحيوية، رغم تراكم القهر، توالي انتفاضاتها الصغيرة المبعثرة يوميا، التي يعيقها إعراض غالبية الفصائل عمليا عن مبدأ المقاومة، فإلى ما قبل سنوات، كانت بعض الفصائل أقرب إلى خط المقاومة، بينما فصائل أخرى أقرب إلى خط المساومة، وابتعدت بالجملة عن مغزى «بيان العاصفة» قبل 56 سنة، بينما ظلت جماعات صغيرة وفية لدينها وسلاحها ووطنها المحتل، وبدت الفصائل الأكبر كأنها اجتمعت على ملة المساومة، واللجوء لشعارات المقاومة أحيانا موسمية، أو على سبيل المناورة وبسط العضلات، وفقط من أجل تحسين نصيبها في المساومة، وبما انتهى إلى خلل ظاهر في التركيب الراكد للحركة الوطنية الفلسطينية اليوم، واستنزاف الوعي الشعبي في انقسامات لا تنتهي، تهد حيل الفعل الفلسطيني المقاوم، وتجعل تجدده العارم مؤجلا، بينما المقاومة المسلحة والشعبية هي الطريق الوحيد لتعديل وقلب الموازين، واستعادة الانتباه العربي والعالمي إلى الحق الفلسطيني السليب، وهو ما تدركه غريزيا ملايين الشعب الفلسطيني، التي لا يملك أحد ترف المزايدة على تضحياتها وصمودها الأسطوري المنتصر بإذن الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى